من يحمي أطفال متلازمة داون في زمن الحرب؟

من يحمي أطفال متلازمة داون في زمن الحرب؟

ما الذي تعرفه عن أوضاع أطفال متلازمة داون في قطاع غزة خلال الحرب؟

في منزلها المُتضرر من قصف إسرائيلي بحي الرمال وسط مدينة غزة، تجلس شيماء حسن (18) عامًا، المصابة بـ متلازمة داون، تمسك دميتها البالية بعينين واسعتين تملأهما الحيرة. سنوات من الاستقرار النسبي والانخراط قضتها في جمعية "الحق في الحياة"، التي تعلّمت فيها النطق، وشاركت في أنشطة مع أقرانها، وبنَت عالمها الصغير ببطء، جميعها اختفت فجأة مع بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023.

تقول والدتها بصوتٍ مكسور: "أنا نفسي لا أعرف كيف أفسر لها الحرب، يوميًا أشرح لها للمرة الألف، لماذا لم تعد هناك جمعية. هي فقط تشعر أن كل شيء تغيّر، ولم يعد أيّ شيء كما كان". منذ تدّمر المبنى، اختفى روتين شيماء وتوقفت خطواتها نحو الاندماج داخل المجتمع. اليوم، لم تعد الجمعية ولا الوجوه التي ألفتها موجودة.

كيف أثّرت الحرب على ذوي متلازمة داون في غزة؟

إذا كانت شيماء محاصرة داخل جدران منزلٍ شبه مُدمر، فإنّ نظيرتها عبير رضا (15 عاماً) وجدت نفسها فجأة داخل خيمة، في عزلةٍ غريبة لا تشبه شيئًا مما اعتادت عليه.

تعيش عبير في خيمة نزوح في منطقة المواصي بخانيونس جنوب القطاع، مع عائلتها بعد أن نزحوا من حي الزيتون شرق غزة. منذ ذلك اليوم، تدهورت حالتها النفسية والجسدية. تقول والدتها: "عبير لا تتحمل التغيير المفاجئ، من أول يوم نزحنا وهي لا تستطيع النوم، تبكي باستمرار وتطلب الرجوع إلى البيت".

كانت الفتاة قبل الحرب تتابع جلسات علاج نطق مرتين أسبوعياً، وتشارك في أنشطة دمج، لكنّها الآن فقدت كل شيء. تردف الأم: "كنا نلحظ تحسن في وضعها الصحي، نتدرج معها خطوة تلو الخطوة، حتى صارت تفهم التعليمات وتشارك قليلًا، لكن الحرب كسرت كل شيء".

تحاول العائلة أن تملأ الفراغ بما تستطيع. تتابع أم عبير: "نحن لسنا مختصين، لكننا نحاول طمأنتها وجعلها تشعر أننا إلى جانبها؛ لكن قلوبنا محروقة، فابنتي تراجع مستواها جدًا وفقدت التقدم الذي كانت تحرزه ببطء".

هذا الانهيار في الرعاية لا يرتبط فقط بالحالات التي اضطرت للنزوح من بيوتها تحت وقع القصف والإخلاء والتهجير، بل حتى الأسر التي بقيت في منازلها لم تسلم من آثار الانقطاع عن محيطها الطبيعي.

تظهر هذه التغيرات بوضوح على الطفل آدم مهدي (9 أعوام)، من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، الذي يفتقد بشدة نمط حياته السابق ويسأل والدته كثيرًا لماذا لم تعد المعالجة المختصة به تزورهم كما كانت تفعل قبل الحرب. 

تقول أم آدم: "صحيح أننا لم ننزح من بيتنا لكن آدم مسجون في البيت ويدرك جيدًا التغييرات التي طرأت على حياته، يقضي اليوم يلف في نفس الدائرة بالصالة ويُخفي وجهه في الأرائك، لم يعد يرى المختصة، ولا يمارس روتينه الذي اعتاده". 

وُلِد آدم بمتلازمة داون وكان يتلقى جلسات نطق ولعب أسبوعية داخل منزله، أمّا اليوم، في ظلّ انقطاع الكهرباء والإنترنت واستمرار القصف؛ ما تسبب في تراجع مستواه اللغوي والسلوكي، وفقَدَ أي تواصل مع العالم الخارجي.

كم عدد أطفال متلازمة داون في غزة؟

هذه الحالات ليست فردية، فبحسب تقريرٍ صدر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في نوفمبر 2024، فإنّ عدد الأطفال ذوي الإعاقة في غزة يُقدر بنحو 98 ألف طفل، بينهم حوالي ألفي طفل مصاب بـ متلازمة داون.

عائلات هؤلاء الأطفال يتابعون بصمتٍ وحسرة تراجع أحوال أبنائهم ويتساءلون مَن يحاسب على هذا الانهيار؟ هل تساءلت أي جهة رسمية عن مصير آلاف الأطفال الذين فُقدت ملفاتهم أو اختفت خدماتهم؟ لماذا تُركوا هكذا بلا حماية وبلا مراكز مؤهلة لدعمهم؟

ذوو الإعاقة في غزة يواجهون ظروفًا إنسانية صعبة خلال الحرب الحالية، لا سيما أطفال متلازمة داون الذين يُحرمون من أبسط حقوقهم، وذلك وفقًا لإفادات مختصين في المجالين النفسي والاجتماعي.

هل توجد خطط طوارئ لذوي الإعاقة في غزة؟

المختصة النفسية والاجتماعية أنوار أبو زايدة التي تعمل على مساعدة أطفال متلازمة داون ودمجهم في المجتمع، توضح أنّ اندّلاع الأزمات يساهم في تلاشي المساحات الآمنة التي تحتاجها هذه الفئة، "ما كان يُبنى بصبر وتكرار خلال شهور وسنوات يمكن أن ينهار في أيام قليلة إذا غاب الدعم".

وتشيرأبو زايدة إلى أنّ غياب خطط الطوارئ لـ ذوي الإعاقة يجعلهم الأكثر عرضة للتهميش، إذ لا يوجد في غزة تحت وقع الحرب تنسيق بين المؤسسات، لا توجد إغاثة مخصصة، وقالت: "لا يوجد حتى وعي كافٍ باحتياجاتهم فالعائلات تُترك في العراء دون أدنى متابعة".

جمعية الحق في الحياة الوحيدة التي كانت تقدم خدمات متخصصة لأطفال متلازمة داون داخل قطاع غزة، دّمر مقرّيها، أحدهم في الشجاعية شرق مدينة غزة والآخر في خانيونس جنوب القطاع؛ وتحوّلوا اليوم إلى مجرد خيمة في مخيم الشاطئ غرب المدينة، تحاول من خلالها أن تنقذ ما تبقى من مستقبل أطفال متلازمة داون. 

يقول نبيل جنيد، مدير البرامج في الجمعية إنّهم لا يتمكنوا من الوصول إلا إلى شريحة محدودة من الأطفال، وغالبيتهم دون سن العاشرة، بسبب الإمكانيات المحدودة التي فرضتها الحرب. فقد تقلّص عدد الكوادر المؤهلة من 75 موظفًا إلى 15 فقط، في حين بقي مئات الأطفال خارج نطاق الخدمة.

ويُقدّر جنيد أنّ نحو 99% من الأطفال الذين كانوا يتلقون الدعم من الجمعية يعانون اليوم من اضطرابات صحيّة ناتجة عن النزوح والضغوط النفسية. ورغم أن القطاع يضم نحو ألفي طفل بمتلازمة داون، لم تُفتح أي مراكز بديلة بعد تدمير مقرات الجمعية.

هل توجد أي استجابة دولية؟

أخصائي النطق والتخاطب محمد عبد اللطيف، الذي عمل مع أطفال ذوي متلازمة داون في منطقة المواصي غرب خانيونس ضمن فرق طبية متنقلة تهدف للوصول إلى لأطفال الذين فقدوا الدعم التأهيلي نتيجة الحرب، يقول: "كانت مهمتنا صعبة، فقدنا كثيرًا من المراكز التي كانت توفر جلسات منتظمة، ووجدنا أنفسنا نعمل في ظروف صعبة داخل مخيمات النزوح، بين خيام مزدحمة وبنية تحتية متهالكة".

يضيف عبد اللطيف: "كنا نحاول استعادة جزء من الروتين التأهيلي للأطفال من خلال جلسات نطق وتمارين بسيطة، معتمدين على ألعاب تعليمية وأغاني تساعد في تحفيزهم".

وعلى الرغم من أنّ العقبات كانت كبيرة لاسيما في ظل انقطاع الكهرباء، نقص الموارد، والقلق المستمر على سلامة الأطفال، إلا أنّ عبد اللطيف إكد أن استمرار هذه الجلسات، حتى لو كانت قصيرة وغير منتظمة، كان له أثر نفسي إيجابي على الأطفال وأسرهم.

لم يتوقف العجز في تقديم المساعدة على المؤسسات المحلية؛ بل حتى المؤسسات الدولية لم تقدم دعمًا مباشرًا. فراس الرملاوي، مدير مكتب هيئة خدمات الأصدقاء الأمريكية (AFSC)، يُقرّ بوجود فجوة في الاستجابة. "لا توجد برامج طوارئ مخصصة لأطفال متلازمة داون".

ويُشير الرملاوي إلى ضعف ملحوظ في التجاوب مع احتياجات هذه الفئة، وقال: "حتى اللحظة، لا توجد برامج طوارئ تفصيلية تركّز عليهم بشكل مباشر. نعمل على دعم ذوي الإعاقة في غزة بشكلٍ عام، لكن الجهود ما زالت محدودة".

لا يقتصر غياب المؤسسات في قطاع غزة على توقف الخدمات؛ بل يعني انهيارًا حقيقيًا للأمان والأمل، خاصة في ظلّ غياب خطط الطوارئ، وتأخر فتح المراكز البديلة، وعدم تحديث قواعد البيانات.

أين وزارة التنمية الاجتماعية في غزة؟

في محاولة للتعرّف على الخطط والإجراءات التي تعدّها وزارة التنمية الاجتماعية بغزة لدعم هذه الفئة، تواصلت مراسلة "آخر قصة" مع الوزارة التي اكتفت بذكر أنّ عدد مراكز التأهيل الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع بلغ حوالي 35 مؤسسة قبل الحرب، وقد دُمِر ما يقارب 85% منها خلال العدوان، وهي مراكز كانت تقدّم خدمات تأهيلية ورعاية وحماية وتمكين للفئات المختلفة من ذوي الإعاقة.

غير أنّ الوزارة لم تقدم أي معلومات حول الخطط البديلة، أو ما إذا كانت تعمل على استحداث مراكز جديدة أو دعم الأسر التي فقدت خدمات التأهيل تمامًا.

ما هي الحماية القانونية لذوي متلازمة داون خلال النزاعات المسلحة؟

يكشف انقطاع الخدمات وعجز المؤسسات، عن فراغ قانوني وإنساني لا تُغطيه النصوص الدولية، حتى تلك التي تنص بوضوح على حماية ذوي الإعاقة وقت النزاعات. ورغم أن دولة فلسطين صادقت على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عام 2014، التي تنصّ على حمايتهم في أوقات النزاع؛ إلا أنّ الواقع مغاير تمامًا، وفقًا لما أشار إليه سمير زقوت، نائب مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان.

يقول زقوت: "أصبح تقديم أدنى درجات الحماية لأطفال متلازمة داون في غزة مستحيل"، الحصار ومنع إدخال مواد الإغاثة قضيا على قدرة المؤسسات على تقديم أي مساعدة".

ما الذي خسره أطفال متلازمة داون خلال الحرب في غزة؟

قبل الحرب، كان كثير من المصابين بمتلازمة داون يشقّون طريقهم نحو حياة أفضل، لكن الحرب حولتهم إلى ضحايا صامتين. تقول والدة شيماء بينما تراقب ابنتها: "نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد أن يعرف العالم أن أطفالنا ليسوا أرقامًا في تقارير، بل قلوبًا تنبض بالحياة".

ما خسره أطفال متلازمة داون في هذه الحرب لا يُقاس بعدد الجلسات التي توقفت أو المراكز التي أُغلقت، بل بسنوات من الطفولة نُزعت قسرًا، وخيوط أمل انقطعت فجأة. وفي كل صمت رسمي، أو عجز دولي، هناك مستقبل يُطوى دون أن يبدأ.

أمام هذا الواقع يتردد صدى السؤال الذي تطرحه عائلات المصابين بمتلازمة داون في غزة: كم من البراءة يجب أن تُزهق قبل أن يتحرك العالم لإنقاذ من لا صوت لهم؟