للوهلة الأولى، صُدمت! لم أفهم الخبر: "الدار رايحة".. اغرورقت عيناي، ثم انهمرت دموعي طويلًا.
لم أفهم شعوري.. هذه المرة الأولى التي أختبر فيها معنى خسارة البيت. رغم أنني فارقته مرات عدّة للسفر والنزوح، واختبرت تضرره والبعد عنه، لكن لم أجرؤ على تخيّل خسارته هكذا كاملة! مرة واحدة! وبلا رجعة.
البيت، كلّ البيت، نسفوه! بيت بعمر أربعين عامًا، عاشته أجيال، وغمرته مناسبات، ودّع أحباب، واحتضن أحباب.. ولادات، زيجات، أفراح، زغاريد، ووداعات، حتى جاءت الحرب وكسته بالسواد عندما حرقوه، وتركوني أعود له عودة وهمية، ثم جاءت القاضية ليسقطوه فينهار كله كمرايا متكسّرة.
كله، في لمحة عين، طمسوه! خُيّل إليّ من فاجعتي أنهم اقتلعوا جذوره من الأرض، وحملوه بين أيديهم وفرّوا به سارقين!
هنا كنا، وهناك، مع شجرات أبي ومزروعاته، كبرنا؛ خمس بنات وشابين، ثم حفيد تلو الآخر، والبيت يعمر. يرفع أبي هاتفه ظهر الجمعة، يلتقط صورة يجمع فيها ما قرّت به عينه أمامه من الأبناء في بيته. أتأمل بريق عينيه، وأتمتم: "إن شاء الله يظلّ عامر يا حبيبي..".
لم أمنح نفسي لحظة لأتخيل أن يهيلوا البيت ويتركونا كلّنا في مهبّ الريح!
عامان من عمر الحرب والنزوح، وأنا أحترق شوقًا إليه. أمني النفس بعودة آمنة، لكنهم لم يسمحوا لي أن أهنأ باحتضانه بضعة أسابيع، وبقيت أنتظر متى سيغمرني المعنى الذي يقول: "شيء يشبه العودة للبيت بعد سفر"، كما يردده الكثيرون دومًا. لكن اليوم تمزقني الأسئلة: أي عودة؟ وأي بيت؟
"هل يدرك أحدٌ مرارة أن تُختزل ذكريات العمر في غبار، لفتاة ظنّت أن جدران دارها ستكون سندها إلى آخر العمر؟!"
"البيت بضلّ للبنات.."؛ احتضنتني تلك الكلمة التي طالما ردّدها أبي – رحمه الله – طويلًا، وكانت مواساتي في غيابه القارص. أمّا اليوم، فـ "لا أبي ولا البيت..".
ثم انهالت الأسئلة على رأسي: هل النخلة أيضًا؟ هل شجرة أبي "تمر الحنّة" التي ورثها عن أبيه؟ هل تلك السنين كلها طوتها قطعة حديدية واحدة؟
لم أبكِ على خسارة مادية أبدًا؛ أبكي عزّ البيت، دفء البيت، ذكريات البيت، كأن السنوات كلها انطوت كومة صور أمامي.
ضائعة كطفلة في زحام.. شعور غريب لم ينتابني في أكثر بلاد الله رحابة وشساعَة.
لا، بل أحترق! الآن فهمت كيف مضت ذكريات الأجيال السابقة التي شاهدتها في ألبومات صورهم!
لكن ذكرياتنا نحن لم تمضِ؛ انهارت فجأة أمامنا. لم ينتظروا حتى تمضي بنا الأيام ويصبح البيت القديم ذكرى عبقة نشاهدها في الصور ونبتسم بشقاوة الطفولة؛ أرادوه جرحًا في الروح لا يلتئم.
وضعت يدي على قلبي، ورددت:
"اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيرًا منها".
ذكريات البيوت المدمرة