الله يرضى عليك.. الله يوفقك ويعطيك اللي ببالك.. الله يخليلك إمك وأبوك.. الله يجوزك..
هذه بعض العبارات التي نسمعها من أطفال يقفون على مفترقات حيوية وأسواق وأبواب مطاعم -حيث يتواجد الناس بأعداد كبيرة- خلال العام، وتنشط بكثرة خلال شهر رمضان واقتراب العيد، بهدف استعطاف المارين للحصول على مبلغ مالي، غالباً لا يتجاوز الشيكل الواحد.
بعض المتسولين يحملون بأيديهم علبة بسكويت أو سكاكر أو ورق محارم، ليلحقوا دعواتهم بعبارة "اشتري مني" في محاولة لاستجداء المارين وركاب السيارات على المفترقات.
غير أن الأمر في بعض الأحيان، تجاوز هذه الحيل، حيث اشتكى عدد من المواطنين باعتداء المتسولين من الأطفال على وجه الخصوص، عليهم جسديا ولفظياً، سواء كانوا مُلاك متاجر أو مارة أو سائقي تاكسي، وذلك نتيجة لرفض المساعدة.
فريق آخر قصة، تجوّل بين أحياء وأسواق قطاع غزة، لرصد واقع التسول، حيث ينتشر الأطفال، وبعض النساء -غالبيتهم منقبات ويحملنّ أطفالاً على أكتافهنّ- تحدثنا مع بعضهم، إلا أنهم رفضوا تحديد أسمائهم الحقيقة أو أسماء عائلاتهم.
"علي" هو فتى قمحي يبلغ من العمر "11 عامًا"، يتنقل بين سيارة وأخرى على مفترق السرايا وسط مدينة غزة، والمعروف بازدِحامه طيلة الوقت لكونه مفترقاً رئيسياً يربط المدينة باتجاهاتها الأربع. يحمل في يده كيساً كبيراً يحتوي على صناديق محارم ورقية صغيرة، وفي اليد الأخرى يحمل إحداها، ويعرض ما لديه على الركاب بهدف البيع، لكن في حال رفض الناس الشراء، يطالبهم متذللاً بمنحه شيكل "أعطيني شيكل الله يخليك".
علي، هو واحد من عشرات الأطفال المنتشرين على ذات التقاطع، يقول إن وضعهم المادي صعب، والده عاطل عن العمل، وهو الأبن البكر في أسرة مكونة من 11 فرداً، وقد بدأ بالتسول منذ عامين بطلب من والده، لكن بسبب صراخ المارة عليه عدة مرات، فكر بالبيع على مفترقات الطرق بهدف تأمين بعض الدخل البسيط لعائلته قبل عام تقريبًا، ويقول لـ آخر قصة "صرت أبيع بدل ما أشحد، لكن الناس ما بتشتري كتير، فبطلب منهم شيكل".
ووفق بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني، فإن معدلات البطالة والفقر في غزة ارتفعت خلال 2021 إلى 89%، وهي النسبة الأعلى في الأراضي الفلسطينية، في وقت كانت معدلاتها قبل العدوان الإسرائيلي في مايو 2021 تصل إلى 75%.
انتقلنا خلال جولتنا إلى مفترق آخر غرب مدينة غزة، يدعى مفترق "أبو طلال"، حيث المخابز والمراكز التجارية الكبيرة، والمطاعم. هنا تحديداً في هذه المنطقة ينشط عدد من المتسولين. رصدنا أكثر من 10 سيدات يفترشن الأرصفة وعلى أكتافهنّ وفي أحضانهم أطفال رضع، جميعهنّ منتقبات بعباءات سوداء، لا يظهر منهن سوى أعينهنّ، مُترقبات المارة، محاولين استعطافهم بعبارات الدعاء.
حاولنا الحديث معهنّ، إلا أنّ غالبيتهنّ رفضن الحديث معنا. "ريهام" اسم مستعار، في بداية عقدها الثالث، هي واحدة من المتسولات التي قبلت الحديث على مضض وبشكلٍ مقتضب. تقول "أهلي وضعهم المادي صعب، عايشين على الكابونات، زوجوني من وأنا عمري 16 سنة، وزوجي كمان فقير، كان يوم يشتغل -كعامل- وعشرة لا، وقبل 5 سنين وقع وتعرض لإصابة أقعدته عن العمل، صار يمشي على عكاز".
بعد الحادث الذي تعرض له زوجها، أصبحت "ريهام" تتنقل بين مؤسسة وأخرى بحدثًا عن كابونة أو مساعدة، وبدأت في تلقي مبالغ نقدية من وزارة التنمية الاجتماعية بعد دراسة حالة عائلتها، لكنها منذ أكثر من عام، لم تتلقى أيّ مبلغ مالي بسبب توقف مخصصات الشؤون الاجتماعية لأسباب مالية تواجهها الحكومة الفلسطينية.
خلال سنوات زواجها، أنجبت "ريهام" 7 بنات وطفل، وتقول "هذا آخر العنقود" مشيرة إلى طفلها الذي لم يتجاوز العامين غافياً على كتفها. وقالت "في شهر رمضان تقوم الناس بتوزيع زكاتها على الفقراء، وأنا أتي إلى هنا للاستفادة من هذه الزكاة كي أنفق على أولادي، وأصحب طفلي لأني لا أستطيع تركه في المنزل".
على الأغلب وبحسب "ريهام" فإنها وجاراتها من المتسولات لا يعرفن أنّ فِعل التسول الذي يمارسنه وآخرون، تُعاقب عليه القوانين الفلسطينية. ويُجرّم قانون العقوبات الفلسطيني رقم (16) لسنة 1960 "التسول" باعتباره شكلاً من أشكال الكسب غير المشروع.
وتنص الفقرة (2) من المادة (389) على "من استعطى أو طلب الصدقة من الناس متذرعًا إلى ذلك بعرض جروحه أو عاهة فيه أو بأية وسيلة أخرى، سواء أكان متجولاً أو جالساً في محل عام، أو وجد يقود ولداً دون السادسة عشرة من عمره للتسول وجمع الصدقات أو يشجعه على ذلك"، يعاقب وفق الفقرة (6) بـ "الحبس في المرة الأولى مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو أن تقرر المحكمة إحالته على أية مؤسسة معينة من قبل وزير الشؤون الاجتماعية للعناية بالمتسولين لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات".
المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات، والذي يعمل على مجموعة من القضايا المجتمعية ذات الأهمية، مع الفئات المهمشة في المجتمع الفلسطيني، ومن ضمنها فئة الأطفال والمتسولين، عكف خلال الأشهر الماضية على متابعة ظاهرة تسول الأطفال في شوارع قطاع غزة.
واستضاف المركز قرابة 10 أطفال -ذكور- من المتسولين، أعمارهم ما بين (8-10 سنوات) ومن مختلف المناطق الجغرافية للقطاع، في محاولة للاستماع لهم. يقول إياد أبو حجير نائب مدير عام المركز لـ آخر قصة "تبين لنا أن الوضع الأسري والاجتماعي للأطفال، هي أسر مفككة، ومن خلال لقاء ثاني مع أهالي الأطفال، كان الجانب الاقتصادي أبرز احتياجاتهم، يليها الطمع وأحياناً المخدرات أو عدم المسؤولية".
عقب ذلك، جمع المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات، ممثلين عن وزارة التنمية الاجتماعية و الشرطة الفلسطينية، للنقاش حول أسباب ودوافع ظاهرة تسول الأطفال، وأسباب معالجتها بالشراكة مع جميع المؤسسات الرسمية و غير الرسمية ذات العلاقة لحل هذه الإشكالية، ويضيف أبو حجير "اقترحنا إنشاء قاعدة بيانات، وإدخال جميع المعلومات الشخصية للمُتسولين الأطفال واحتياجاتهم، لتكون مرجعية لجميع الوزارات ذات العلاقة، ولمن أراد العمل معهم أو مع فئة منهم، من المؤسسات الغير حكومية".
ويحظر قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004، المادة (43) على "يحظر استغلال الأطفال في التسول كما يُمنع تشغيلهم في ظروف مخالفة للقانون أو تكليفهم بعمل من شأنه أن يُعيق تعليمهم أو يضر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية".
المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة "عزيزة الكحلوت"، والتي يقع على عاتق وزارَتها متابعة ملف المتسولين بحسب القانون الفلسطيني، قالت إنّ أعداد المتسولين بالقطاع لا يتجاوز الـ 200 بحسب آخر إحصائية عملت عليها الوزارة عام 2019.
وأوضحت الكحلوت، أنّ وزارتها، تتابع ملف المتسولين، وقد نفذت خلال العام الآنف، مشروعاً بالشراكة مع عدة وزارات معنية حسب القانون، بهدف الحد من انتشَار التسول، من خلال توفير البدائل، وتَوقيع تعهدات على أولياء أمور الأطفال منهم،.
وقالت "كان البرنامج فعال، وأتى بنتائج هامة على الأرض، إلا أن انتشار فيروس كورونا خلال 2020، والعدوان الإسرائيلي في مايو 2021، استحوذ على جهود الوزارة".
وقالت الناطقة باسم التنمية الاجتماعية "ربما بسبب استحواذ بعض المواضيع الهامة على عمل الوزارة، عاد انتشار المتسولين ولكن بشكل أقل من السابق"، منوهة إلى أنّ وزارتها أعدت خطة شاملة للعمل على ظاهرة المتسولين بالتعاون مع عدة وزارات وجهات حكومية، سيتم تنفيذها بعد عيد الفطر القادم، من أجل تطبيق القانون بحق هذه الفئة.