ماذا تعرف عن بدائل سكر الطعام المنتشرة في أسواق قطاع غزة؟
حين نفذ مخزون سكر الطعام، همّت المواطنة الغزية سلوى منذر، تبحث عبر البسطات المنتشرة في شوارع غزة الوعرة عن ضالتها بما تملكه من مال بالكادّ يكفي لشراء مقدار ملعقتين.
أثار انتباه السيدة منذر حشد من الناس يجتمعون حول بسطة في شارع الجلاء غرب مدينة غزة، يجلس خلفها بائع يلوّح بزجاجات شفافة قائلاً: "مية محلاة للشاي".
فضول السيدة قادها للتعرف على سرّ هذه السلعة التي ظهرت فجأة في السوق، في ظلّ شُح سكر الطعام. لم تكن منذر وحشد الزبائن حولها يعرفون ماهية هذا السائل، الذي بدا شفافًا شبيهًا بالماء، وفي ظلّ قلّة ذات اليد وغياب البدائل اضطرت لشرائه.
حملت الزجاجة إلى خيمتها القريبة من شاطئ بحر مدينة غزة، تسبقها خطى أطفالها الثلاثة الذين اندفعوا نحوها ما إن لمحوا العبوة بيدها، يسألون بحماس عما أحضرته. "يما هاي مية حلوة للشاي". قالت الأُم، ثم رأت الابتسامة جليّة على وجوه صغارها فرحًا بشرب شيء مُحلى في ظلّ شح السكر وارتفاع ثمنه على نحو غير مسبوق.
انطلق الأطفال مسرعين لإشعال النار، ووضعت سلوى أوراق النعناع في الإبريق المعدني، وبينما هي تسكبه فوق "الماء المحلى"، بدأ ابنها يحضّر الأكواب الصغيرة استعدادًا للتذوق. ومع أول رشفة، تعالت أصواتهم مدهوشة: "طعمه حلو.. سكر!".
سكر الطعام
لم تكن الحكاية مجرد لحظة فرح عابرة، بل جزءًا من واقع مرير فرضته الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 22 شهرًا. فالسكر الأبيض، ذلك العنصر البسيط الذي كان أساسيًا في كل بيت، تحول إلى سلعة نادرة بعد أن قفز سعره إلى 150 دولار للكيلو الواحد.
في مواجهة هذا الارتفاع الجنوني، لم يجد سكان غزة خيارًا إلا اللجوء إلى بدائل أقلّ تكلفة وأكثر انتشارًا، مثل "سكر اللوز" و"الماء المحلى"، المنتشرين في الأسواق كحلول مؤقتة لإشباع الرغبة في كوب شاي حلو.
لكن وراء هذه الحلاوة المخادعة، تكمن مخاطر صحية لا يعيها الكثيرون؛ إذ يجهل معظم السكان تركيبة هذه المحليات الصناعية.
غير أنّ الصورة التي يُروّج لها في الأسواق، تُخفي حقيقة أنَّ هذه المواد ليست جديدة. يقول مأمون رجب، وهو بائع في على بسطة في شارع النصر غرب غزة، إنّه يشتري "سكر اللوز" من تاجر في غزة. "المادة موجودة من قبل الحرب"، يؤكد، "ويقولون إنها مادة صناعية تُستخدم للتصنيع الغذائي، لكننا نبيعها للناس كمُحلٍّ للشاي".
أنواع السكر الطبيعي
يظن كثيرون، كما تقول سلوى عبد الرحمن وهي أخصائية تغذية، أن "سكر اللوز" مستخرج من اللوز؛ لكنّ الحقيقة أن اسمه الأصلي "سكرالوز"، وهو مركب كيميائي صناعي يُستخدم كمُحلٍّ بديل للسكر.
وأضافت أن هذا المسحوق "يُباع في أوراق ورقية صغيرة، كل غرام منها يصل إلى ثلاثين شيكلًا، ويذوب في خمس إلى سبع لترات من الماء، ليمنحها المذاق الحلو الذي يفتقده الشاي منذ شهور، لكنه بكل تأكيد زيادة تعاطيه قد يعطي نتائج سلبية على صحة الإنسان".
المواطنة نوران خالد (35) عامًا، وهي أم لأربعة أطفال، قالت إنها اشترت غرامات من "سكر اللوز" لتحضيره لأطفالها. لكن مع أول كوب، بدأ طفلها يعاني من تبول لا إرادي متكرر؛ ما دفعها لاستشارة طبيب أطفال أكد لها أن السكرالوز يؤثر على المثانة ويُمنع عن الأطفال. لذلك توقفت خالد من الفور عن استخدامه، ثم بدأت تتحسن حالة طفلها في اليوم التالي.
ما حدث مع نوران يعكس خطر الاستخدام العشوائي لهذه المواد خاصّة أن توصيات منظمة الصحة العالمية وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تُشير إلى أنّ الحدّ الآمن لاستهلاك مادة السكرالوز هو 9 ملغم لكل كيلوغرام من وزن الجسم يوميًا. ويُفترض أن يُلتزم بهذه النسبة بدقة، وإلا فإن الخطر الصحي وارد، خاصة لدى الفئات الحساسة كالأطفال.
في غزة، لا يملك المستهلكون ترف حساب الكميات أو حتى معرفة نوع المادة التي يتناولونها. تقول نوران: "لم يخبرنا أحد عن الحدّ الأدنى وخطورة الإكثار منه". بينما تُشير دراسات إلى أنّ هذا الاستخدام العشوائي لمادة خاضعة لشروط دقيقة، يحوّلها من بديل سكر إلى مهدد صحي محتمل.
تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى ارتفاع مقلق في أعداد مرضى الفشل الكلوي خلال فترة الحرب. فقبل اندّلاعها، كان القطاع يضم نحو 110 مريضًا فقط يتلقون العلاج داخل مستشفياته، لكن بحسب الوزارة فإنّ هذا الرقم تضاعف بأكثر من خمس مرات منذ اندلاع الحرب، وسط شُح حادّ في أجهزة غسيل الكلى ونقصٍ مزمن في الأدوية الأساسية.
ورغم أنّ الوزارة لم تربط هذه الزيادة بشكل مباشر بتناول بدائل السكر الصناعية مثل السكرالوز، فإنّ هذا التصاعد يتزامن مع انتشار غير مسبوق لهذه المواد، واستخدامها دون رقابة أو وعي بالكمية الآمنة.
في الوقت نفسه، تقرّ الجهات الرسمية بأنّ الانهيار الحاصل في النظام الصحي بفعل الحرب يحول دون إجراء دراسات دقيقة تربط بين هذه الظواهر الصحية المتفاقمة ومسبباتها المحتملة. ومع ذلك، يبقى غياب التوعية الوقائية وتراجع دور الرقابة تحديًا لا يمكن تجاهله.
قبل الحرب الإسرائيلية التي اندّلعت في أكتوبر 2023، كانت غزة تستهلك شهريًا نحو 3760 طنًا من السكر، وفقًا لبيانات وزارة الاقتصاد الوطني. لم تكن المحليات الصناعية رائجة أو حتى معروفة في الأسواق آنذاك. لكنها اليوم باتت بديلًا قسريًا، فرض نفسه في ظل الحصار والغلاء وانعدام أجهزة الرقابة.
صالح الطويل، وهو كيميائي خبير في مجال الصحة العامة وتحاليل الأدوية، يوضح أنّ المواد المنتشرة حاليًا كبدائل للسكر هي محليات صناعية بحتة، لا تحمل أي قيمة غذائية.
معدل السكر الطبيعي
يتضمن بعض هذه البدائل مركبات كيميائية، وفقًا للطويل، كالأسبارتام (E951)، أو سكارين (E954) أو أسيسولفام ك (E950) أو سيكلامات الصوديوم (E952) او سكرالوز (E955). ويُفترض أن تُستخدم هذه المواد ضمن حدود قصوى للكمية اليومية المسموح بها، بحسب المعايير الصحية الدولية.
يُشكّل تجاوز الكمية المُوصى بها من هذه المحليات خطرًا وأضرارًا بالغة بالكبد والكلى والجهاز العصبي، ويرفع من خطر الإصابة بالأورام السرطانية، كما يُحذر الطويل، ويضيف أنّ التأثير يكون أكثر خطورة على النساء الحوامل والأطفال والمرضعات، مؤكدًا أنّ شرب هذه المحليات بين الأطفال تحديدًا يُشكل خطرًا مباشرًا على صحتهم.
ومع انهيار القدرة الشرائية في غزة بنسبة 89%، وقفز أسعار الغذاء بنسبة 437% بحسب تقديرات البنك الدولي، اضطر السكان إلى قبول هذه البدائل، فلم تعد المعايير الصحية أولوية، بل ترفًا لا يملكه الفقراء.
هذه الأوضاع دفعَت ساجدة محمد (٣٥ عامًا) على شراء لتر من الماء المحلى يوميًا بعشرة شواكل لصنع الشاي من سوق النصيرات وسط قطاع غزة حيث تقطن، ومع مرور الوقت، بدأت تشعر بعطش مستمر لا ينقطع.
تقول وهي تشرب كوبها الرابع خلال نصف ساعة: "سألت الطبيب عن سبب العطش، فأخبرني أنّ السكرالوز الذي أشربه يوميًا يؤثر على الكلى ويزيد الشعور بالعطش". كانت ساجدة قبل انتشار هذا الماء المحلى تشتري جرامات محدودة من السكر الأبيض، لكنّها توقفت بعدما ارتفع سعره بشكلٍ غير منطقي، فاتجهت إلى البدائل، رغم إدّراكها التدريجي لمخاطرها الصحية.
أما السبعيني عاطف نصر، فقد تذوق بديل السكر عدّة مرات، لكنه توقف عن استخدامه بعدما حذرته حفيدته الطبيبة من مخاطره. يقول متكئًا على عكازه: "عشت حروب كثيرة، لكن مثل هذه لم أرَ. لم أتخيل أن أصل لمرحلة أشتاق فيها لملعقة سكر".
في خضم هذه الفوضى، تُقرّ وزارة الصحة بعجز شبه تام في الرقابة على هذه المنتجات. يقول لؤي العمصي، مهندس الصناعات الغذائية في دائرة الطب الوقائي، إنّ هذه المواد لم تكن جديدة، بل كانت تُباع قبل الحرب، وسبق أن أتلفت الطواقم الرقابية نحو 50 صندوقا منها.
يوضح العمصي أن الحرب غيّرت كل شيء واعدمت كافة أشكال الرقابة، وقال "الطواقم التي كانت مسؤولة عن إتلاف المنتجات الضارة ومنع دخولها السوق لم تعد قادرة على أداء مهامها، بفعل ظروف الحرب، ونقص الكوادر، واستهداف بعض العاملين."
وأضاف: "أعمل الآن بشكل فردي في النصيرات، أراقب المنتجات التالفة في الأسواق، وأدعو التجار إلى إتلافها. سبق أن أتلفنا كميات من الطماطم والزعتر الفاسد، لكنّ المشكلة الآن أكبر، فـ (الماء المحلى) المنتشر على نطاق واسع يُباع دون بطاقة تعريف، ولا يعرف المستهلكون تركيبه أو مصدره."
ويختم العمصي بأنّ وزارة الصحة كانت قبل الحرب تشنّ حملات لمصادرة المنتجات التي تحتوي على محليات صناعية، لكنها اليوم عاجزة عن السيطرة على السوق، مشيرًا إلى أن الطواقم الرقابية ستعود فور إعلان وقف إطلاق النار ضمن خطة طوارئ لضبط الأسواق مجددًا.
وإلى أن يتحقق أمر وقف إطلاق النار، ستظل البدائل خيارًا اجبارياً أمام المواطنين الذين يدفعون ضريبة الواقع من صحتهم وجيوبهم. حيث أن طول أمد الحرب أعجز المؤسسات عن العمل؛ لكنّ هذا لا يعفي أحدًا من مسؤولية حماية الناس من استهلاك مواد بلا هوية ولا رقابة طبية وسط سوق فوضوي يبيع لهم ما قد يكون أشبه بـ "السم الحلو".
موضوعات ذات صلّة:
غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة
الجوع يجرُ الأطفال لمسليات فاسدة وسامة
طحينٌ مخلوط بالرمل يكسر فرحة الجوعى برغيفٍ ساخن!
الطحين الفاسد على موائد الجائعين
بدائل سكر خطرة في الأسواق