النزلة المعوية تفتك بالأطفال وتواجه بالوصفات الشعبية

كارثة صامتة

النزلة المعوية تفتك بالأطفال وتواجه بالوصفات الشعبية

داخل ملعب فلسطين وسط مدينة غزة، حيث تحوّلت الساحة والمدرجات إلى خيام مؤقتة للنازحين، تجلس أم جميل قنيطة بجوار ابنتها تالا ذات الاثني عشر عامًا، التي ترقد على فراشٍ رث بين نوبات مغص معوي وإسهال وحمى لا تنتهي، فهي مصابة بالنزلة معوية.

الخيمة الضيقة التي تأوي تسعة أطفال فقدوا أبيهم ومنزلهم أصبحت سجنًا لمعاناة لا تُحتمل في بيئةٍ لا تصلح للبشر. "المياه غير صالحة، والطعام نحضره من التكيّة غير نظيف، لكنّنا مضطرون"، تقول الأم بصوتٍ مبحوح، بينما تحاول تهدئة طفلتها بعلاج شعبي، إذ تضع "فتلة شاي" في ماءٍ بارد وتعطيها إيّاه، ليمنحها راحة مؤقتة قبل أن تعود الأعراض بقوة.

على بُعد مئات أمتار، تجلس رغد جرس البالغة من العمر 17 عامًا على كرسي متحرك، داخل خيمتهم في شارع الجلاء وسط المدينة، بعد أن أنهكتها أعراض النزلة المعوية الحادّة إلى الحد الذي افقدها القدرة على المشي.

ما هي أعراض النزلة المعوية؟

تروي رغد التي لا تقوَ على الحديث كثيرًا، بينما تنمّ ملامح وجهها الشاحب ونظراتها المُجهدة عن تعبٍ شديد: "حملني أبي إلى مستشفى الهلال الأحمر الكويتي وسط غزة، بعد أن رفضت النقطة الطبيّة القريبة منّا صرف الدواء دون تشخيص".

تلّقت الفتاة في المستشفى الميداني حقنتين ومحلولًا وريديًا أعادا لها جزءًا من وعيها، فيما نصحها الطبيب بالإكثار من شرب السوائل وتناول الخضراوات لمدّة أسبوعين على الأقل، لكنّ المياه نفسها التي يُفترض أن تساعدها في الشفاء هي مصدر العدوى، بينما أسعار الخضار فلكية ولا تقوَ أسرتها على توفيرها البتة.

تجتاح النزلة المعوية قطاع غزة بشكلٍ مُتسارع، خاصّة بين الأطفال، نتيجة تلوّث المياه في بيئة الخيام. ورغم تزايد الإصابات، تفتقر المستشفيات للأدوية الأساسية مثل "الأنتميبا" والمحاليل الوريدية.

وفي ظلّ الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 22 شهرًا، يتداخل أثر النزاع المسلح مع تدّاعيات المناخ على نحوٍ خطير، خاصّة فيما يتعلّق بالأمراض المرتبطة بالمياه. 

ويشير مختصون وأطباء في أحاديث سابقة مع "آخر قصة"، إلى أنّ موجات الحرّ المتصاعدة، وتراجع جودة المياه بسبب تعطل البنية التحتية، خلقا بيئة مثالية لتفشي أمراض معدية مثل النزلة المعوية، خصوصًا في الخيام المكتظة والمناطق التي تفتقر إلى نظام صرف صحي فعّال. إذ حوّل هذا التداخل بين آثار المناخ والحرب تلوّث المياه من أزمة بيئية إلى تهديدٍ مُباشر للحياة اليومية.

هذه الأوضاع تضطر السكان إلى اللجوء إلى بدائلٍ شعبية كالأعشاب والمكملات الطبيعية، التي باتت باهظة الثمن بفعل غلاء السوق المحلي وشحّ الإمدادات الناتج عن إغلاق إسرائيل المعابر ومنع دخول الأدوية والمواد الأساسية منذ مارس الماضي.

المشهد يتكرر في الخيام بمدينة غزة، حيث فقدَت حنين غباين الوعي على باب المستشفى الميداني في منطقة السرايا وسط المدينة، بعد سيرها على الأقدام لعدم قدرتها على دفع أجرة المواصلات. "كنت قبلها قد شربت ماءً وأكلت عدسًا من التكية"، تقول الفتاة التي كادّت تدخل في مرحلة الخطر لولا تدّخل الأطباء السريع.

أمّا حنان شادي (12 عامًا) التي تقطن في خيمة مجاورة، فلم تعد قادرة على النهوض بعد أربعة أيام من الإسهال الشديد. تقول أمها، التي تعالجها بكمادات وتسقيها ماء ومريمية: "ظننتها تلتقط آخر أنفاسها"، بينما تردف بأسف: "البيئة كلها ملوثة، والعلاج مجرد محاولة يائسة".

تفيد الطواقم الطبية بأنّ علاج النزلة المَعوية، خاصّة في الحالات الحادّة، يستدعي دخول المستشفى لتلقّي السوائل الوريدية والرِّعاية المستمرة؛ إلا أنّ ذلك يكادّ يكون مستحيلًا في غزة اليوم. فالقطاع الصحي يعاني من انهيار شبه تام، حيث أن أكثر من 80% من المرافق الصحية خارجة عن الخدمة كليًا أو جزئيًا، والمستشفيات المتبقية بالكاد توفّر الحدّ الأدنى من الرعاية لحالات القصف أو الولادات الطارئة، وسط نقص حادّ في الكوادر والمستلزمات الأساسية.

وفي هذه الظروف، تصبح معالجة النزلة المعوية رفاهية طبية غير متاحة، خاصّة مع انقطاع المواصلات، وتدهور البنية التحتية، وبعد المراكز الطبية عن أماكن النزوح، ما يجعل الوصول إلى الرّعاية الصحية مهمة شبه مستحيلة.

يقول الطبيب رامي الشياح، مسؤول قسم الإسعاف والطوارئ بمستشفى العودة، إن أقسام الاستقبال والطوارئ في مستشفيات قطاع غزة تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد المصابين بالنزلة المعوية، في ظلّ تدهور بيئي وصحي واسع، ونقص حادّ في الأدوية والمحاليل الوريدية.

منذ مايو/أيار الماضي، ومع اشتداد موجات الحر، قال الشياح إن المستشفى يسجّل يوميًا عشرات الحالات، معظمها لأطفال وكبار سن يصلون بحالات جفاف حاد قد تُفضي إلى مضاعفات خطيرة، أبرزها الفشل الكلوي. 

متى تزول أعراض النزلة المعوية؟

يوضح الطبيب الشياح أنّ النزلة المعوية هي التهاب يصيب المعدة أو الأمعاء، غالبًا نتيجة عدوى بكتيرية أو فيروسية، وأن جميع الفئات العمرية معرّضة للإصابة، إلا أن الأطفال والضعفاء هم الأكثر تأثرًا.

تختلف الأعراض من حالة لأخرى، لكنها تشمل عادة الإسهال، التقيؤ، الحمى، آلام البطن، والضعف العام. وفي حالات متقدمة، تظهر علامات الجفاف مثل قلة التبول وجفاف الفم والجلد، ما يستدعي دخول المريض للمستشفى لتلقّي العلاج الوريدي، وهو ما بات عبئًا يصعب تلبيته في ظل ندرة المستلزمات.

يرجع الشياح أسباب تفشي المرض إلى تلوّث المياه، وسوء النظافة، وانتشار الأطعمة المكشوفة والمعلبات مجهولة المصدر، إضافة إلى غياب الصرف الصحي المناسب، وتكدّس النازحين في أماكن تفتقر لشروط الوقاية. 

"الأطفال على وجه الخصوص معرّضون للخطر بسبب تناولهم أطعمة ملوثة أو مياه غير نظيفة، ومع الاكتظاظ وغياب التوعية، تنتقل العدوى بسرعة"، يقول الطبيب.

ويضيف أنّ دواء "الأنتميبا"، المستخدم لعلاج النزلات الطفيلية، مفقود تمامًا من مخازن القطاع، فيما المحاليل الوريدية المتوفرة لا تكفي إلا لأيام معدودة. "ما نقوم به حاليًا هو علاج الأعراض فقط"، يوضح، مشيرًا إلى أن بعض المرضى يحتاجون علاجًا يمتد أسبوعًا كاملًا، لكن لا تتوفر الإمكانيات لذلك.

وفي ظلّ هذا العجز، يناشد الشياح الجهات المعنية والمنظمات الصحية الدولية بإرسال شحنات عاجلة من الأدوية والمحاليل الأساسية. ويختتم الطبيب بتحذير للأهالي: "تجنّبوا العصائر والأطعمة مجهولة المصدر، وراقبوا علامات الجفاف لدى الأطفال. النزلة المعوية يمكن علاجها بسهولة في ظروف عادية، لكنها في غزة اليوم قد تتحوّل إلى خطر على الحياة".

ويُرجِع الأطباء تفاقم حالات النزلات المعوية في غزة إلى تلوّث المياه، الناتج عن تعطل محطات التحليّة، وانقطاع الكهرباء، وغلاء الوقود اللازم لتشغيل المولدات، مما حوّل المياه المستخدمة يوميًا إلى مصدر عدوى، خصوصًا للأطفال.

"آخر قصة" توجهت إلى واحدة من محطات تحليّة المياه القليلة التي ما تزال تعمل في قطاع غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية الحالية، لتوفّر مياهًا شبه صالحة للشرب وسط انهيار كامل للبنية التحتية.

داخل محطة "كرزة" في مدينة غزة، يقف أحمد الغندور، أحد المشرفين على تشغيلها، أمام فلاتر مهترئة تجاوزت عمرها الافتراضي بعامين، ويقول: "في ظلّ الحرب نواجه ظروفًا قاسية غير مسبوقة، ونعمل بأقلّ الإمكانات فقط لنواصل التشغيل".

يُضيف الغندور: "منذ سنوات ونحن نُعاني من نقص حادّ في مواد التحلية، لكن الحرب جعلت توفيرها شبه مستحيل. الفلاتر، الكلور الخام، مضادات الترسبات (الأند سكيل)، والصودا كلها غير متوفرة، فاضطررنا لاستخدام بدائل بدائية كأقراص كلور مقدّمة من بعض المؤسسات".

ولإطالة عمر الفلاتر، خفّضت المحطة إنتاجها إلى 8000 لتر في الساعة بدلًا من 10 آلاف، ورغم ذلك، تُنتج نحو 250 كوبًا يوميًا، ويتم تعقيم الخزانات يدويًا كل أسبوعين إلى ثلاثة باستخدام كلور محلي الصنع.

ويُحذر الغندور من أنّ مستوى الترسبات والملوحة ارتفع من 20% إلى أكثر من 100%، ما يجعل معالجة المياه أكثر تعقيدًا، فيما لا تزال نحو 20 سيارة تأتي يوميًا لتعبئة المياه، في ظل انعدام البدائل. يردف بحسرة: "حتى نحن نشرب هذا الماء، لا خيار آخر أمامنا".

وفي ظلّ هذا التدهور، تحذّر الجهات المختصة من أن استمرار النقص قد يؤدي إلى توقف محطات التحلية، ما يحوّل أزمة المياه إلى خطر يومي يتجاوز حدود العطش، ويزيد من تفشّي أمراض منقولة بالماء كالنزلات المعوية، التي باتت واقعًا يوميًا لعائلات لا تجد بديلًا عن مصادر غير آمنة.

في غزة، لم تعد النزلات المعوية مجرد مرض موسمي، بل تحوّلت إلى انعكاس قاتم لانهيار البيئة والصحة والخدمات. بين خيم النزوح ورفوف الصيدليات الخالية، تكافح العائلات بأدوات بدائية في مواجهة مرض يمكن احتواؤه في ظروف طبيعية. لكن في مكانٍ يُحاصر فيه الماء، وتُمنع فيه الأدوية، وتُترك فيه الطفولة دون حماية، لا يبقى سوى الانتظار على حافة الخطر.

 

موضوعات ذات صلّة:

كارثية والقادم أسوء: انتشار الأمراض المعدية يهدد قطاع غزة

الأمراض الوبائية تفتك بأطفال غزة وسط غياب الرقابة

الأمراض المعدية والحرب على غزة: القاتل الصامت الفتاك

غزة تُكافح السحايا بأدوية مُعدّمة وغرف عزل مكتظة

بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون