يوميات: عزومة الحمام الساخن

يوميات: عزومة الحمام الساخن

إذا كنت إنساناً لازلت تتمسك بالحياة ولديك أمل في غدِ، فمن الأصل أن تعطي اليوم حقه. وحق اليوم يستوجب أن تستيقظ باكراً حتى لو لم يعطيك دوي القذائف فرصة لأخذ قسط كافي من النوم.  تنتظرك قائمة مهام يومية معقدة. واحدة من هذه المهام أن تستقل مقعداً بأربع أرجل داخل حافلة كانت تستخدم لنقل الخردوات، لكي تصحبك إلى وجهتك التي قصدت بمقابل متوسط قيمة أجرة (دولار ونصف).

تبدو هذه الحافلة كعلبة سردين صدئة منتهية الصلاحية، يحشو داخلها الأفراد حشواً سواء كانوا نساء أو رجال أو كبار سن وأطفال، وأحيانا ذوي إعاقة.

لغة الحوار الخفية بين الكومسري (جامع الأجرة) والسائق في طريقة أخباره بضرورة التوقف لصعود أو نزول راكب، هي الطَرقُ بمطرقةٍ على سطح الحافلة. وبين طرقة تذهب وأخرى تدب في الرأس مثل سقوط حطام المباني. تتناهى قصص الركاب.

إلى جواري يجلس رجلٌ في أوائل عقده الخامس. يحاول أن يجري اتصالاً يفشل في كل مرة، ثم يعيد الكرة. أخيراً مسك الخط وقبل أن يفتح الطرف الآخر الخط قام بشتمه: "لهلقيت بترد، إلي ساعة بحاول ارن عليك".

كان الرجل يلتصق بي في المقعد، حتى لم يعد هناك متسع لنسمة هواء تمر بيننا. لم أكن أسمع وابل شتائمه فحسب، بل كنت أشم رائحة اليأس العالقة به. لكنك هنا، في هذه الحافلة، لا تملك ترف النزول. فتبقى، حتى محطتك، غارقًا في عرقك وهموم من حولك.         

المهم يا سيدي/تي العزيز/ة، فالقصة تكمن في طلب المتصل من المتصل به (تبين لاحقاً أنه أبنه)، أن يحضر له صابون استحمام وليفة.

فجأة يتبسم الرجل ثم يتودد في طلبه بخفوت صوت: "بقلك عمتك كلمتني عزمتني استحم عندها، لأنه عندها مية سخنة، بدي تجيبلي ليفة وصابون". من الواضح أن الأبن كان خارج المنزل ولم يستطيع تلبية طلب الأب، فيرد الأخير بعدما طفح كيل استجداءه "أبوك لأبو الحمام، بقلك مية سخنة تحت الدش أنت عارف أيش يعني، دش ساخن!!".

يقطع الرجل المكالمة غاضبًا وهو يمسح تعرق جبينه بنصف كمه، ويقول: "كنت أستاذ مربي أجيال، كان عندي بيت بجنن من ثلاث طبقات، شريت سراميك الحمام من أغلا الأنواع، ألبس مكوي وأشلح مكوي، أصبحت لا أتمنى إلا وقفة تحت الدش لأخد حمام ساخن".

بطبيعة الحال، لا أحد يكترث هنا داخل الحافلة لهموم الآخر كي يواسيه، ليس لانعدام الإحساس ولكن لأن كل منهم يحمل ألاما مختلفة، فالكل يكتف بالصمت. قبل أن أنزل من الحافلة اقتربت منه مواسيًا: "لست وحدك من تحتاج الحمام الساخن، كلنا هذا الرجل، على الأقل بعد هذه الرحلة".