في خيمةٍ بلاستيكية بحي النصر غرب مدينة غزة، تجلس سميرة محمود (42 عامًا) مع أطفالها الثلاثة حول صحن من شوربة العدس، الذي بات عنصرًا أساسيًا في موائد الغزيين مؤخرًا. تقول بينما تخلط العدس مع المعكرونة المسلوقة: "العدس صار لحمنا وقوتنا، نضيف إليه ما يتوفر لنصنع منه وجبة تُشبع أطفالنا".
وتتابع بحسرة: "صرنا نصنع من العدس أكلات كثيرة؛ مثل الدُقة بدلًا من القمح الشحيح، والأرز بالعدس، والبطاطا بالعدس، والسلق بالعدس، والمجدرة طبعًا لكننّا نُعدَّها بلا بصل لأنّه غير موجود". تقطع حديثها ابنتها سارة (8 أعوام) بنظرة متسائلة وهمسة حزينة: "ماما، هل راح نرجع ناكل لحمة بعد ما تخلص الحرب؟"
تحمل رياح غزة اليوم رائحة الخشب المحترق بدلًا من عبق الأكلات الغزية الشهيرة، حيث تحوّلت الأواني المعدنية فوق النار الهزيلة إلى وسيلةٍ لطهو حفنة من العدس.
في أزقة القطاع، يُصبح الطبخ فعل مقاومة، واللقمة البسيطة انتصارًا على الجوع وسط حصار إسرائيلي خانق يمنع دخول الغذاء منذ مارس الماضي، مع ارتفاع جنوني للأسعار وانتشار الجوع.
يُعيد الغزيون اختراع وجباتهم بمكونات بسيطة، بينما يذوب صبرهم كقطرات الشحم النادرة. الأطفال يلمسون الجوع حين لا يجدون كسرة خبز، والأمهات يقسمن حصص الطعام كأثمن ما يملكون. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر المُدقع، مع اختفاء أساسيات البقاء.
تغير المطبخ الغزي من أحدّ أغنى المطابخ الشرقية إلى مطبخ فقير باللحوم والخضراوات، وسط ارتفاع أسعار البقوليات أيضًا. وابتكرت الأمهات "أكلات الحرب" المصنوعة من مكوناتٍ بسيطة والتي حلّت محلّ الأكلات الغزية الشهيرة والمغذية، تاركين خلفهم أيام الوفرة، لكنّهم يصنعون من اليأس إرادة للصمود.
لم تعد الدواجن والخضراوات متاحة في غزة إلا نادرًا وبأسعارٍ خيالية، فتحوّلت معظم الأكلات الشهيرة كالمقلوبة، والكبسة، والفتة إلى "أكلات كذابة" تُحضّر من أردئ أنواع الأرز فقط بإضافة القليل من البهارات المتوفرة، فيما اختفت الكثير من الأكلات السابقة كالمسخن والمنسف وغيرها.
ومن الأطباق المبتكرة، الباذنجان على طريقة البامية، تقول نادية حسن (46 عامًا) التي فقدت زوجها في الحرب الإسرائيلية الحالية وتُعيل اليوم أبنائها الأربعة، "يتوفر الباذنجان في الأسواق وهو من أقلّ الخضار سعرًا مقارنة بغيره، فأصبحنا نصنع منه وجبات عدّة، ومنها أننّا نُقطعه مكعباتٍ ويُقلى مع صلصة الطماطم والثوم والريحان ليعطي طعمًا شبيهًا بالبامية".
وفي ظلّ ارتفاع أسعار زيت القلي لما يتجاوز 90 شيكلاً أي نحو (30 دولار) للتر الواحد، اضطرت الأسر الغزية إلى شِواء الفلافل وهو الأكلة الأكثر شعبية في قطاع غزة وكان معهودًا أنّه يُقلى في الزيت.
ُتردف حسن وهي تُخفي ابتسامة خجلة: "بسبب ندرة الزيت، تُصنع أقراص الفلافل وتُشوى في الفرن بعد دهنها بالقليل من زيت القلي".
في ميناء غزة، حيث تكتظ الخيم بالنازحين، تعتمد أماني راجي (35 عامًا) على مكملات الأطفال الغذائية التي تصل في طرود المساعدات وتُباع على البسطات لصنع "حلوى" تشبه النوتيلا. "نخلطها مع قليل من الكاكاو القديم الذي احتفظت به منذ شهور. إنّها الحلوى المفضلة لدى ابني"، تقول بينما يلعق الطفل الصغير الملعقة بشغف.
وقد أصبحت مكملات الأطفال الغذائية وجبة حلويات للكثير من الأفراد بعد ارتفاع أسعار السكر بشكل هائل وصل إلى 120 شيكلاً (35 دولار)، وأصبحت أسعار المتوفر من البسكويت تتجاوز حدود المنطق ومنها بيع البسكويت بسعر 12 شيكلا بعدما كان بـ (1 شيكل) في الأيام الطبيعية، وارتفعت أسعار الشكولاتة بأنواعها بشكلٍ غير مسبوق، فعلى سبيل المثال لا الحصر أصبحت قطعة السنكرز تُباع بـ 50 شيكلا، بعدما كانت تكلفتها لا تتجاوز اثني شيكل في الماضي.
لكنّ هذه الابتكارات ليست دون ثمن. إذ إنّ 96% من سكان قطاع غزة، يواجهون مستويات عالية من انعدّام الأمن الغذائي الحاد، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
طبيبة الأطفال سهام جمال، تُشير إلى أنّهم يرون أطفالًا بعمر العاشرة بوزن أطفال الخمس سنوات. الكثير من الأمهات يخشين فقد أطفالهن نتيجة سوء التغذية"، تقول الطبيبة، التي تعمل دون توفر الأدوية الأساسية لعلاج سوء التغذية.
بحسب منظمة الصحة العالمية، فإنّ 95% من الأطفال تحت سن الخامسة في غزة لا يحصلون على غذاءٍ كافٍ للنمو الطبيعي. أما الأمهات الحوامل، فتعاني 70% منهن من فقر الدم الحادّ، فيما يُحذر الأطباء من أنّ استمرار هذا الوضع أكثر قد يؤدي إلى "جيلٍ مشوّه" صحياً وعقلياً.
في مطبخٍ مؤقتٍ بمنزلٍ نصف مُدمر في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، تخترع نورة يوسف (55 عامًا) وصفاتٍ للطعام من لا شيء، كعلبة تونة تتحول إلى "ستيك تونة" بعد خلطها مع القليل من الطحين المتبقي.
"نضيف قليلًا من الملح والماء، ثم نُقلّبها على نار الحطب. الأطفال يفرحون بها كثيرًا في ظلّ القحط الحاصل"، تقول السيدة وهي تفتح العلبة بحرص، كأنّها تتعامل مع خبيئة أو ذخيرة، في ظلّ ارتفاع أسعار علبة التونة ذات الحجم الصغير إلى نحو 25 شيكلاً (8 دولار) بعدما كانت تباع بـ 2 شيكلا (أقلّ من واحد دولار) قبل الحرب.
تروي السيدة التي تُعيل ثمانية من الأبناء كيف اختلف نمط طعامهم الحالي عمّا كان عليه قبل الحرب، وتشير إلى أكلة "البطاطا بالشاميل" التي ابتكرتها النسوة في الحرب، وذلك بقلَي البطاطا مع البصل، ثم يُضاف إليها بشاميل يدوي الصنع مع بودرة مرقة دجاج؛ ليحاكي مذاق المكرونة بالبشاميل وصدر الدجاج قديمًا.
وتضيف: "زوجي يعمل مدرسًا ويتلقى راتبه من السلطة الفلسطينية، لكننا لا نستطيع تحصيله كاملاً، لأننا نضطر لدفع عمولة تصل إلى 48% لسحب المبلغ نقدًا من السوق السوداء، وهو ما يرهقنا ماليًا بالإضافة إلى ندرة الأصناف المتوفرة وغلائها الكبير؛ ما يجعلنا نلجأ لمثل هذه الوصفات حالنا حال آلاف العائلات".
لم تخلوا ابتكارات المطبخ الغزي الاضطراري تحت وقع الحرب من صنع التسالي، ومن أوفرها تكلفة، هو الحمص المملح، إذ يُحمّص حبوب الحمص مع الملح ليصبح بديلًا عن المكسرات. تقول سامية فهمي (37 عامًا) التي تعيل خمسة أبناء: "نتحايل على أنفسنا بتسالي كذابة نسكن بها القليل من جوع الأطفال في ظلّ غلاء الطحين".
فهمي التي تنزح وأسرتها إلى شارع الشهداء وسط مدينة غزة بعدما فقدَت بيتها في حي الشجاعية، تقول بينما تُقلّب الحمص على نارٍ هادئة: "هذه الوصفات سأوريها لأحفادي، ليس لأنها شهية، بل لأنها تثبت أننّا حتى في الجوع، نرفض أن نكون ضحايا".
اليوم، بينما تستمر الطائرات في القصف، والحدود في الإغلاق، يبقى السؤال: كم من الوقت يمكن أن تستمر هذه المعجزة اليومية؟ لكن لأهل غزة إجابة واحدة: "أعدموا أمامنا الخيارات، نصنع ما يبقينا على قيد الحياة". هنا، حيث يُقاس الزمن بعدد الوجبات، وليس بعدد الساعات، تُخبز الحياة رغم كل شيء بلونٍ من الصمود الاضطراري لا يفهمه سوى مَن عاشوه.
موضوعات ذات صلّة:
كُفتة العدس.. حساء البقاء تحت وطأةِ الجوع
هل الصيام القسري خطوة تسبق الموت جوعاً؟
اقتصاديات الحصار: حين يُصبح الغلاء أداة تجويع
غزة: الناجون من الحرب قد يقتلهم الجوع