ملاعب الحارات... تناقصت المساحة وبقيت الجماهير 

 لا تزال تنشط في رمضان 

 ملاعب الحارات... تناقصت المساحة وبقيت الجماهير 

بعد انكسار شمس الظهيرة، وقبل دخول العتمة، تجمع فتية في أحد أحياء مدينة رفح جنوب قطاع غزة، على أرض ترابية فارغة من المباني الإسمنتية والزراعة، هي أرض شبه مخصصة لأبناء الحي للعب كرة القدم خلال الأيام المشمسة بعدما كانت عبارة عن بركة مياه بفعل أمطار فصل الشتاء.

أحاط بالمنطقة المخصصة للعب، العشرات من الشباب والفتية، كمشجعين لمباراة أُقيمت خلال أيام شهر رمضان، وقبل موعد الإفطار، يهتفون لدعم أقاربهم أو أصدقائهم خلال اللعب في تقليد شبه يومي يمارسه الفتية هناك، فيما يمارس بعضهم لعب كرة القدم ضمن دوري رمضاني أُقيم هناك بين فِرَق الحارات.

 تجولنا بين الحارات الشعبية، ووجدنا في مدينة رفح على سبيل المثال لا الحصر، عدة ملاعب ترابية بعضها ينشط منذ عقود، ونشر الكاتب والحقوقي مصطفى إبراهيم، على صفحته في فيسبوك، صورة لأحد الملاعب تلك الملاعب، مشيراً إلى أنها لملعب كرة قدم شعبي يقع شمال مخيم الشابورة للاجئين برفح، عمره أكثر من 40 عاماً، قائلاً "مازال يحافظ الملعب على شعبيته، مُخرّجاً مئات اللاعبين النجوم المميزين على مستوى فلسطين، خلال السنوات الماضية".

انتقلنا من جنوب القطاع إلى شماله، لنشاهد العشرات من الفتية يلعبون كرة القدم في مخيم جباليا بين المباني السكنية، ووسط الشوارع الفرعية. أما في القرية البدوية أقصى شمال القطاع، يستقطع مجموعة من الفتية جزءً من أرض ترابية فارغة، لممارسة اللعبة بشكل يومي قبل موعد الإفطار، بحسب ما قال لنا أحدهم.  

ويتجمع بعض الفتية، محددين مرماهم بطُوبتين صغيرتين، منقسمين لِفريقين، يتنافسان في اللعب ضد بعضهم البعض، فيما يقف آخرون على جانبي الملعب لتشجيع أقرانهم أثناء اللعب. 

وفي مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، صاحب أعلى كثافة سكانية، يضطر الفتية لإغلاق الطرقات بهدف ممارسة كرة القدم، في ظل انتشار المباني السكنية المتلاصقة بشكلٍ كثيف، واختفاء الأراضي الفارغة، على عكس السنوات الماضية. 

الكابتن مصطفى نجم، من مواليد 1966 في مخيم الشاطئ بغزة، انتسب للدراسة الابتدائية في مدارس الوكالة اللاجئين الفلسطينيين، وبدأ لعب كرة القدم منذ الطفولة في أرض قريبة من منزله كانت تسمى بـ "ساحة الشوا"، وتشبه إلى حد كبير ملاعب الحارات الحالية، كان يذهب للعب في الإجازات الأسبوعية والعطل الصيفية وشهر رمضان، برفقة أبناء جيله من الأقارب والجيران، ليلعبوا هناك. 

تواصلت آخر قصة معه عبرّ الهاتف، من مقر إقامته الدائم بالقاهرة، يقول نجم "في ساحة الشوا، كنا نلتقي مع لاعبين أكبر سناً، بعضهم كانوا نجوماً في لعب كرة القدم، واكتسبت الخبرات الرياضية منهم، حتى أصبحت أتقن اللعبة بعد سنوات".

استمر في لعب الكرة هناك، حيث الملعب الترابي، حتى عام 1984، عندما عرض عليه ابن عمه الانضمام إلى فريق براعم الجمعية الإسلامية، فوافق، وكان أصغر اللاعبين في الفريق. خضع هناك لتدريبات أكثر جدية واحترافية استعداداً لخوض مباريات محلية مع فِرقٍ أخرى، وكانت لعبته الأولى مع البراعم ضدّ اتحاد الشجاعية على أرض ملعب اليرموك، وقد سجل حينها الهدف الوحيد في شباك اتحاد الشجاعية.

في الثمانينيات، كان ملعب اليرموك الذي تأسس عام 1952، هو الملعب الوحيد في مدينة غزة، مع تواجد لبعض الأندية المحلية، مثل براعم الجمعية الإسلامية، واتحاد الشجاعية وغزة الرياضي وغيرهم القليل، ولم تكن تلك النوادي في ذلك الوقت معدة للعب بالإمكانيات المتوفرة بالشكل المعتاد، كالتعشِيب، والمرمى التقليدي والمدرجات الخاصة بالمشجعين.

يستذكر الكابتن "نجم" الملاعب الترابية في الثمانينيات، ويقول "لم تكن الملاعب معشبة، كما لم يكن هناك مرمى بشباك، أو خطوط تماس، كنا نستخدم قطعتين من الطوب الصغير لتحديد المرمى، والجمهور على الجانبين هو خط التماس"، مضيفاً أن الملعب الترابي يتحول في موسم الشتاء والأمطار إلى بركة مياه، تمنعهم من القدرة على اللعب، إلا في حال ظهرت الشمس ليومين أو ثلاثة، لتساهم في تجفيف الملعب بشكلٍ مؤقت.

ربما الوضع الاقتصادي الصعب الذي كان يمر به الكابتن في بداية شبابه، هو ما دفعه للعب في نوادي رياضية بهدف تحسين دخله، إلا أن نشاطه واحترافيته باللعب قال إنه فتح أمامه أفقاً للتنَقل بين النوادي الكروية التي ساهمت بلمعان نجمه في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حتى استقر باللعب لصالح نادي الزمالك المصري، محققاً نجاحاته الكروية معه.

ذات المنطقة التي ترعرع فيها الكابتن مصطفى نجم، تغيرت ملامحها خلال السنوات الماضية، بسبب تلاصق المنازل السكنية، ولم يعد هناك فرصة للعب أمام فتية وشباب الحي، إلا وسط الشارع، أو في ملاعب المدارس -أسمنتية الأرضية- المجاورة للمخيم خلال شهر رمضان. حتى ساحة الشوا التي حدثنا عنها، وبدأ مشواره الكروي منها، أصبحت الآن مربعاً سكنياً يضيق ذرعاً بساكنيه.

انتقلنا في جولتنا إلى حي الشجاعية، شرق مدينة غزة والمحاذي للحدود مع الأراضي المحتلة عام 1948. وبسبب الكثافة السكانية هناك، وانتشار المباني السكنية في حواريها، توزع أبناء المنطقة للعب كرة القدم في الشوارع أيضاً، في مشهد مشابه لمناطق متعددة من أحياء القطاع.

تواصلنا مع الكابتن صائب جندية -لاعب المنتخب الفلسطيني لعدة سنوات- وهو من أبرز أبناء "الشجاعية" الممارسين للعبة كرة القدم. والذي اتفق في مطلع حديثه مع ما ذكره سابقه اللاعب "نجم"، بالحنين لأيام الطفولة، واللعب في ملاعب الحواري الترابية، وقال لـ"آخر قصة"، "أيام الطفولة، واللعب في الحارة مع الأقارب والجيران، كانت من أجمل أيام حياتي".

الكابتن جندية، من مواليد عام 1975، في حي الشجاعية شرق غزة، بدأ حياته الكروية باللعب مع الأقارب والأصدقاء في الملاعب الترابية، وكان ضمن فريق العائلة وفريق الحارة يلعب مع فِرَق أخرى، ضمن دوريات محلية، كانت تُقام خلال الثمانينيات والتسعينيات، على الأراضي فارغة، لم تعد اليوم كما السابق.

يستعيد الذاكرة، ويقول "كنت أحب الرياضة واللعب لتطوير مهاراتي، متمنياً تمثيل بلدي في يوم من الأيام"، يوغل في ذاكرته أكثر ويضيف "في أيام الجمعة والعطل الصيفية وشهر رمضان كنا نتجمع لنلعب في ملاعب ترابية، تجدنا في الحارات وبين المنازل، شاركت في مباريات تنافسية، ورغم بساطتها إلا أن أجمل ما فيها جمهورها، الذي كان يمثله الأطفال والشباب على الجانبين".

بدأ الكابتن اللعب في عُمر 12 عام تقريباً، لكن بسبب انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وإغلاق النوادي الرياضية، لم يتمكن من الالتحاق واللعب بنوادي مخصصة لممارسة كرة القدم، مشيراً إلى أن ملعب الحي، والمقام على أرض كانت فارغة قبل أن يقام مباني سكنية عليها مؤخراً، كانت ملازه لممارسة اللعبة وتطوير مهاراته الكروية.

وبحسب الكابتن جندية؛ كان لكل حارة فريق كروي ينافس في دوريات تتم على مستوى محلي بين الحارات، وكان إما ينضم للعب في ملعب ترابي بحارة أخرى، أو يأتي فريق من حارة ما للعب معهم في حارتهم.

ويستعيد أحداثاً مضى عليها قرابة 30 عاماً، "كانت في شهر رمضان تنشط العديد من الدوريات الكروية المحلية، حتى نصل آخر الشهر، فنجد أنفسنا وقد لعبنا في أكثر من دوري".

وانتشرت خلال السنوات الأخيرة على طول مدن قطاع غزة، عشرات الملاعب المخصصة للعب كرة القدم، والمُعشبة صناعياً، بمقابل مادي، يتم استئجاره من قبل الشباب لساعات محددة، إلا أن تلك الملاعب لم تعدم فكرة الملاعب الشعبية، وربما يعود ذلك إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني منه قرابة مليونا مواطن، أكثر من نصفهم أطفال.