مصابو الحرب: حياة معلقة على حبال الألم

مصابو الحرب: حياة معلقة على حبال الألم

في خيمةٍ بالية بملعب الجامعة الإسلامية غرب مدينة غزة، تحاول ميرفت البسيوني (33 عاماً) إشعال موقد بدائي بينما يلعب طفلاها (6 و4 سنوات) بعلبةٍ فارغة من البيبسي. منذ أن فقدت قدمها اليمنى في قصفٍ إسرائيلي في ديسمبر 2023، أصبحت تفاصيل حياتها اليومية كفاح مستمرة.

"حتى غسل الملابس تحول إلى معضلة"، تقول بينما تشير إلى دلو بلاستيكي ممتلئ بثياب أطفالها المليئة بالتراب. "الماء النظيف في المخيم نادر وباهظ الثمن، والمسافة إلى محطة المياه تتطلب مني القفز على عكاز واحد مدة 20 دقيقة".

الخيمة التي تسكنها مع عائلتها لا تتجاوز مساحتها 12 مترا مربعا، وهي مصنوعة من القماش المشمع. في الشتاء تتحوّل الخيمة إلى بركة، وفي الصيف إلى فرن. هنا، حتى أبسط حقوق الإنسان في العيش بكرامة تصبح أحلاماً مستحيلة.

تُعاني البسيوني الأمرين بعد بتر قدمها، خاصة في ظلّ غياب زوجها بعد اعتقاله من قبل الاحتلال الإسرائيلي في اجتياح مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، حيث كانت تخضع للعلاج بعد البتر الأول. "الاحتلال لم يسرق ساقي فقط، بل سرق حتى حقنا في الحزن كبشر طبيعيين دون إهانة"، تضيف بينما تمسح بكم قميصها دموعاً لم تجف منذ أشهر.

فقدان منزلها في معسكر جباليا شمال القطاع، وتدميره بالكامل حوّل حياتها إلى رحلة مستمرة من النزوح. لكنّها تقول: "لم تنكسر روحي، رغم كل شيء، الحياة لا تزال مستمرة ونحن نكمل مسيرتنا."

صحيح أنها تحاول البقاء قوية لأجل أطفالها، ولكن في اللحظات التي تخلُّد فيها إلى النوم على فراشٍ أرضي مصنوع من النسيج، يصبح الألم لا يُطاق. "في بعض الليالي، لا أستطيع النوم بسبب الألم في ساقي المبتورة والبرد القارس في الخيمة، لكنني أتحامل لأجل أولادي."

تصف ميرفت الوضع في المخيم قائلة: "كل شيء هنا مؤلم. الخيمة ضيقة، والظروف لا تُطاق، وحتى الطعام أصبح قليلاً ولا يكفي." وعلى الرغم من هذه الصعوبات، تقوم بكل واجباتها تجاه أسرتها بلا مساعدة أحد، وتظل تأمل في لحظةٍ تلتقي فيها مع زوجها، لعلّ اللقاء يكون بمثابة تعويض عما فقدته.

معاناة البسيوني التي تفتقد إلى الرِّعاية الصحية ليست حالة فردية، بل هي جزء من واقع مرير يعيشه أكثر من 4500 شخص في غزة، يشير إليه الطبيب خليل الدقران، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، الذي يوضح كيف أن الحصار وظروف الحرب جعلت معاناتهم أكثر تعقيدًا.

يشتكي هؤلاء الجرحى أيضًا تأخر إجراء العمليات الجراحية لهم، وفي ظلّ توفر كرسي متحرك واحد فقط لكل 50 مصابًا في قطاع غزة، فإنّ الطبيب الدقران يقول: "الاحتلال الإسرائيلي لا يمنع إدخال العكاكيز والكراسي المتحركة للمصابين فقط، بل يواصل أيضًا حرمانهم من الحصول على أطراف صناعية"، ويؤكد أنّ القدرة على التنقل، التي كانت تُعتبر حقًا أساسيًا، أصبحت أمنية بعيدة للكثير من هؤلاء الجرحى.

في الوقت ذاته، يعصف الحصار في مكونات النظام الصحي بقطاع غزة. المستشفيات التي تفتقد للكثير من الأدوية والمستلزمات الطبيّة، أصبحت غير قادرة على تقديم الرِّعاية الصحيّة اللازمة لهذه الفئة المتضررة، بينما يُدمر الاحتلال المرافق الحيوية، بما في ذلك مشفى حمد، الذي كان يوفّر الخدمات الطبية الضرورية للمصابين.

"القطاع الطبي على حافة الانهيار"، يقول الطبيب الدقران، مُضيفًا أنَّ الوضع الصحي للمصابين يتدهور بشكلٍ متسارع في غياب العلاج المتخصص.

ولا تختلف مأساة المواطن كمال أبو عجوة (34 عاماً) عن آلام كثيرين في قطاع غزة، الذين فقدوا أطرافهم نتيجة القصف الإسرائيلي، ليجدوا أنفسهم في رحلة لا تنتهي من الألم والحرمان.

أُصيب أبو عجوة بطلقٍ ناري إسرائيلي بُترت ساقه اليسرى على إثره، وذلك أثناء بحثه عن أعشاب الخبيزة لإطعام أطفاله الجوعى في إحدى الأراضي في حي الشجاعية شرق مدينة غزة. اليوم، يجلس مهمومًا على حصيرٍ بالٍ عند مدخل خيمته في مخيم الزهراء وسط مدينة غزة، فمنذ إصابته أصبحت أبسط احتياجاته اليومية أشبه بجحيم.

"في الشتاء الماضي، انزلقت على الوحل وأصبت برضوض لأنني لم أتمكن من التحكم بعكازي على الأرض الزلقة"، يروي بينما يرفع بنطاله ليكشف عن ندبة ملتهبة أسفل البتر. "هذه الالتهابات لا تلتئم لأننا نغسل الجروح بمياه ملوثة".

في زاوية الخيمة، تتدّلى حقيبة بلاستيكية تحتوي على "كنز" بالنسبة لهذا الرجل، هي عبارة عن ضمادّات حصل عليها من مستوصفٍ ميداني، وعلبة مضاد حيوي منتهية الصلاحية اشتراها من صيدلية بـقيمة (50 شيكلاً).

"الاحتلال يمنع دخول الأدوية حتى المسكنات، فنضطر لشراء حبوب منتهية الصلاحية"، يقول وهو يفرك ساقه المبتورة. "في البداية كانت الإصابة تعني وجعًا لا يتوقف، أما الآن فأنا أعاني من أمراض أخرى بسبب البيئة التي نعيش فيها هنا".

يعرف أبو عجوة أن حياته لن تكون كما كانت، وأن العودة إلى منزله الذي دمّره الاحتلال في حي الشجاعية أمرٌ غير ممكن. لكنّه لا يشتكي من فقدان السكن فقط، بل من معاناته الصحيّة المستمرة.

في الخيمة التي يسكنها، يصبح كل شيء شاقًا. "أحتاج دائمًا لمساعدة زوجتي حتى للوصول إلى دورة المياه. المسافة بعيدة، والطريق مليئة بالركام وغير مُستوية. في المخيم، الطريق مليئة بالمياه الملوثة التي تجمعت كبرك بين الخيام، وهذا يزيد من معاناتي الصحية."

يُردف أبو عجوة الذي يُعاني ضعف المناعة بسبب الإصابة، "لا أستطيع تحمُّل الأمراض التي تنتقل في هذا المكان، حتى الهواء الذي نتنفسه هنا مُلوث، ما يزيد من معاناتي اليومية."

يقول جراح العظام في مستشفى الشفاء، أحمد العبسي، وهو يشير إلى صورة أشعة لطفلة فقدت ساقيها: "هذه حالة بتر واحدة فقط من أصل 4500 حالة مُسجلة رسميًا". ويضيف: "70% من الحالات بحاجة إلى عمليات تكميلية، لأنَّ البتر الأول أجري في ظروفٍ طارئة، دون تعقيم كافٍ".

وأكّدت تقارير ميدانية أنَّ معظم المبتورين في غزة يُعانون من التهاباتٍ مُزمنة بسبب نقصٍ حادّ في المضادات الحيوية وغياب ظروف التعقيم المناسبة. "الالتهابات الثانوية بعد البتر مُنتشرة بشكلٍ كبير، نتيجة لتعرُّض الجروح لظروفٍ غير صحيّة أثناء أو بعد العمليات مُباشرة"، يوضح العبسي.

يتقاطع حديث العبسي مع ما ورد في تقرير "هيومن رايتس ووتش" الصادر في أبريل 2024، والذي وثق حالات لمبتورين أُجريت لهم عمليات بتر دون تخدير كافٍ، مما زاد من خطر الالتهابات الشديدة التي تُهدد حياة العديد منهم.

ليس المبتورين فقط، بل إنَّ 60% من المصابين في غزة يُعانون مضاعفاتٍ صحيَّة نتيجة نقص الرعاية الطبيّة، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة الصادر في مارس 2024. كما أكّد التقرير أنّ 70% من المستشفيات في القطاع غير قادرة على تقديم خدمات جراحية آمنة بسبب نقص المُعدَّات الطبيّة وأدوات التعقيم.

ومثلما كان لبتر ساق ميرفت أثرٌ عميق على حياتها، فإنّ صابرين الخيري، التي كانت على وشك بدء حياة جديدة، تواجه تحدّياتٍ مماثلة بعد إصابتها في القصف؛ ما يضيفها إلى قائمة القصص المُؤلمة التي تَتشابه في تفاصيلها داخل قطاع غزة.

قبل أيام قليلة من موعد زفافها، كانت الخيري قد أكملت كل استعداداتها للانتقال إلى منزل عريسها في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. "كل شيء كان جاهزًا"، تقول، وهي تستذكر الترتيبات التي أنجزتها. لكن تلك التفاصيل اختفت فجأة في لحظة.

استفاقت صابرين، بعد أيامٍ من قصف إسرائيلي استهدف منزلها، في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط مدينة غزة، حيث كانت قد أُصيبت بجروح خطيرة أدّت إلى بتر ساقها. ما تبقى لها من ذكريات تلك اللحظة هو شعور غريب بأنّها كانت في حلم، "لكنني سرعان ما أدرّكت أنه ليس حلمًا، بل حقيقة مريرة"، تقول بصوت يتخلّله الألم.

"لم أتوقع ما حدث في ثوانٍ"، تتابع صابرين بينما تسترجع تلك اللحظة القاسية. كانت قد انتظرت، أخبار وقف إطلاق النار في غزة بعد الإفطار في رمضان، وكان عقلها مشغولًا بالتفكير في تلك اللحظة المنتظرة. وعندما أيقظوني، "وجدت نفسي في المستشفى، ساقي مبتورة، وغير قادرة على استيعاب ما حدث تمامًا".

اليوم، وعلى الرغم مما مرّت به من فاجعة وآلامٍ نفسية لا تتوقف، تستمر صابرين في محاولاتها للتعافي من جراحها وإعادة بناء حياة تأجل زفافها فيها إلى أجلٍ غير مسمى.

ليست صابرين وحدها في هذا الألم، فمعاناتها النفسية تتكرر مع آلاف المبتورين في غزة الذين يواجهون تحدياتٍ مماثلة تؤثر على حياتهم اليومية. توضح الأخصائية النفسية فداء مهنا أن فقدان جزء من الجسد، مثل بتر القدم، يُعد تجربة نفسية عميقة تؤثر بشكل طويل الأمد.

وتضيف مهنا أن المبتورين يواجهون تحولات جذرية في حياتهم النفسية والاجتماعية، ما يجعل التكيف أمرًا صعبًا. من أبرز الآثار النفسية التي تعاني منها العديد من الحالات هي الصدمة، حيث يُصابون بحالةٍ من الإنكار أو عدم التصديق، وقد تستمر لفترة طويلة بعد الحادث.

كما يعاني الكثيرون من الحزن العميق وفقدان الأمل، مشيرين إلى خوفهم من أن تصبح حياتهم محكومة بالإعاقة. "الصدمة تكون حادة، ويشعر الشخص وكأن حياته اليومية تغيرت بشكل مفاجئ"، تقول مهنا.

وفي بعض الحالات، يشعر الأشخاص بالغضب تجاه الظروف التي أدت إلى بتر أطرافهم، سواء كانت نتيجة الحرب أو الحوادث أو الإهمال الطبي. "الغضب قد يكون مصحوبًا بالذنب، خصوصًا إذا كان الحادث ناتجًا عن تصرف شخصي"، تضيف مهنا.

وأخيرًا، يشير الجرحى إلى أنهم قد يتجنبون التفاعل الاجتماعي خوفًا من نظرات الشفقة، ما يؤثر سلبًا على تعافيهم النفسي. ومع ذلك، تشير مهنا إلى أن العديد من المصابين يتجاوزون هذه المرحلة تدريجيًا مع الدعم المناسب.

بينما يواصل الاحتلال فرض حصاره، تبقى أسئلة الحياة اليومية للمصابين معلقة بين الأمل في المساعدة الإنسانية والدعم الدولي، التي تبقى، كحال الجرحى، في انتظار الفرصة، ولسان حال الغزيين: "كم قصّة أخرى يجب أن تُروى قبل أن يتحرك العالم؟".