الحصار والسطو يعززان الجوع في غزة

الحصار والسطو يعززان الجوع في غزة

في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يتكدس عشرات الباعة خلف بسطات مهترئة، يعرضون عليها أصنافاً من الأرز وقليل من السكر وزيت الطعام، كلها مساعدات إنسانية وصلت عبر منظمات دولية، لكنها الآن تُباع بأثمان خيالية.

"اشتريت كيس السكر هذا من أحد الأشخاص وهو عائد من سطو على قافلة مساعدات، بقيمة 180 شيكلاً (50$)، وأبيعه الآن بـ 240"، يقول محمد أبو عيسى (45 عاماً)، وهو أب لخمسة أطفال، بينما يشير إلى ملصق "يوزع مجاناً" المطبوع على الكيس. "لا خيار أمامنا، نحتاج إلى المال لشراء الأدوية والحليب لأطفالنا".

هذه المشاهد ليست استثناءً، بل جزءاً من واقع مرير يعيشه سكان غزة، حيث تحولت المساعدات الإنسانية من شريان حياة إلى سلعة في سوق سوداء تزدهر تحت وطأة الحصار الإسرائيلي وعمليات السطو على قوافل المساعدات، وفقاً لتقرير بحثي أعدّه الخبير الاقتصادي رامي وليد الزابغ، وحصلت "آخر قصة" على نسخة منه.

التقرير، الذي حمل عنوان "اقتصاد المساعدات الإنسانية في غزة"، يكشف كيف تحولت المساعدات إلى أداة ضغط سياسي، وأدى فساد التوزيع ونهب العصابات المدعومة من الاحتلال إلى تفاقم أزمة الجوع.

المساعدات تُباع والجوع يقتل

"لم نعد نأكل سوى وجبة واحدة يومياً، وغالباً ما تكون خبزاً مصنوع من مسحوق العدس أو الفاصوليا مع القليل من الزيت"، تقسم أم أحمد (32 عاماً)، نازحة من حي الشجاعية، بينما تنتظر دورها أمام شاحنة تنقل مياه محلاة بالمجان لخيام الإيواء في حي النصر غرب مدينة غزة.

تشير أم أحمد إلى أنها لم تحصل على مساعدات غذائية منذ ثلاثة أشهر، بفعل إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمعابر التجارية مع قطاع غزة واستمرار الحرب للشهر التاسع عشر على التوالي.

وقالت "حتى عندما كنا نحصل على الطرود الغذائية، لم تكن تكفِ لأسرة مكونة من 8 أفراد، حيث كنا نضطر لبيع جزء منها لشراء حفاضات الأطفال".

عدا عن ذلك، تواجه هذه السيدة وغيرها مئات الآلاف من سكان القطاع، مجاعة حقيقة بفعل نفاذ مخزون الدقيق، والاضطرار إلى طحن البقوليات واستخدام مسحوقها بديلاً عن الطحين، الذي بلغ ثمن الكيلو الواحد (80 شيكلاً)، وهو عمليا لا يكفي لتحضير عشرة أرغفة.

وتشير الكثير من الأسر إلى أن افرادها يتناولون الأرز والمعكرونة بديلاً عن الطحين منذ أسابيع، وأنهم يواجهون أعراض صحية بائسة نتيجة سوء التغذية.  

ومن الناحية العملية فإن أكثر من 90% من سكان قطاع غزة كانوا يعتمدون كلياً على المساعدات للبقاء على قيد الحياة، بعد أن دمّرت الحرب البنية التحتية للإنتاج والاستيراد.

بيد أن هذه المساعدات لا تصل بكفاءة: فبينما يحتاج القطاع إلى 500 شاحنة يومياً، لم يكن يدخل قبل الثالث من مارس الماضي، سوى 50 شاحنة وفقاً للأمم المتحدة. والأسوأ، أن جزءاً كبيراً منها يتعرض للنهب.

يقول سائق شاحنة يدعى أبو يوسف: "العصابات التي تستولي على الشاحنات تعمل تحت حماية الجيش الإسرائيلي"، موضحاً أن تعليمات الجيش تختلف من وقت لآخر، "في كثير من الأحيان يقوموا بتوجيهنا لتغيير خط السير، وعندما نصل، نجد عشرات المسلحين ينهبون الحمولة أمام أعيننا ولا نستطيع فعل شيء".

يوثّق التقرير الصادر عن مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، شهادات مماثلة من سائقي شاحنات ومنظمات إغاثة، مشيراً إلى أن إسرائيل ترفض توفير طرق آمنة للتوزيع.

من يتحكم بطعام الغزيين؟

الاحتلال ليس وحده المتهم. التقرير يسلط الضوء على "اقتصاد المساعدات" الذي نشأ في غزة، حيث يتلقى بعض الأسر طروداً من عدة جهات، بينما يحرم آخرون تماماً.

هذا الواقع كانت تعاني منه سميرة (29 عاماً) والتي قالت إنه قبل انهيار وقف إطلاق النار المؤقت في مارس الماضي، كانت تعاين عن قرب حصول جارتها على ثلاثة طرود غذائية من مؤسسات مختلفة خلال أسبوع واحد، فيما لم تتلق أسرتها أي شيء، وقد كان يدفعها هذا الأمر إلى بيع مدخراتها من أجل شراء الوقود الصناعي اللازمة لعملية الطهي في ظل فقدان مصادر الغاز.

لكن الأكثر إثارة للجدل هو "الأسواق الموازية" للمساعدات، التي يهيمن عليها وسطاء يرفعون الأسعار بنسبة 500% أحياناً. التقرير يذكر أن سعر كيلو السكر ارتفع من 2 شيكل قبل الحرب إلى 260 شيكلاً حتى إعداد التقرير، بينما تباع "طرود فاخرة" من منظمات مثل بسعر 2,300 شيكل بسبب احتوائها على تمور ومكسرات.

في الأثناء طرح الباحث الزايغ سؤالاً عبر دراسته: هل المساعدات النقدية حلّ أم استغلال؟

وجاءت الإجابة على النحو التالي: في مواجهة هذا الوضع، أصبحت التحويلات النقدية خياراً حيوياً. حيث أن 60% من المساعدات النقدية في غزة تقدمها منظمة اليونيسف، لكن النظام المصرفي المنهار حوّلها إلى كابوس.

يشرح أبو رياض أحمد، أحد المستفيدين من هذه المساعدات قائلاً: "من أجل الحصول على ألف شيكل عبر وسيط، أدفع عمولة قدرها 350 شيكلاً للمُصرّف".

رغم ذلك، يرى الخبير الاقتصادي محمد سليم سكيك، الذي استشهد به التقرير، أن المساعدات النقدية "أداة إنقاذ" لأنها تمنح الأسر مرونة شراء ما تحتاجه. لكنه يحذر من تحولها إلى "حقن مؤقت" دون حل جذري.

خطة إسرائيل: "فيتو الطعام"

التقرير يكشف النقاب عن خطة إسرائيلية مثيرة للجدل، تتمثل في إنشاء "مجمعات توزيع" عسكرية جنوب غزة، حيث يُجبر السكان على السير لمسافات طويلة لتلقي مساعدات خاضعة لشروط أمنية، بما في ذلك التعرف على الوجه. "هذا ليس إنقاذاً، بل تهجيراً قسرياً تحت غطاء إنساني"، يقول محمود بسيوني، ناشط في المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

المنظمات الدولية رفضت المشاركة، ووصفت الخطة بأنها "انتهاك للمبادئ الإنسانية". جيمس إلدر، المتحدث باسم اليونيسف، قال: "لا يمكن أن نشارك في آلية تجبر الأطفال على المرور عبر نقاط عسكرية للحصول على الطعام".

وبالعودة إلى صوت الغزيين أنفسهم، نجد أن الاحتياج الأساسي الآن هو وقف الحرب قبل أي شيء، يقول ياسر وهو أب لأربعة أطفال: "نحن لسنا متسولين. نريد حرية، لا مساعدات"، بينما يقف أمام أنقاض منزله في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

الجملة تلخص مأساة غزة: حصار يجبر مليوني إنسان على العيش على الفتات، بينما يُستخدم طعامهم كسلاح في معركة لا نهاية لها.