بائعة النعناع: يا فقر من يشتريك ؟ 

العوز لا يعترف بسن التقاعد

بائعة النعناع: يا فقر من يشتريك ؟ 

تتعدد الطرق المؤدية إلى سوق الزاوية القديم الواقع وسط مدينة غزة، لكن طريقًا واحدًا يؤدي إلى بائعة النعناع، الكل يألفه. سيدة ستينية ممتلئة القوام، ذات بشرة بيضاء لوحَتهَا الشمس، تُدعى فاطمة الصوص، تفترشُ الأرض ويحيط بها باقات نعناع يانعة مكدسة ومتراصة بعناية، إضافة إلى الكزبرة، والبقدونس، والزعتر.

اعتادت "الصوص" أن تأتي إلى السوق يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا وتستمر حتى ساعات المساء. تجلس القرفصاء أمام بسطتها بعد أن يلقي عليها جيرانها الباعة تحيات الصباح. ترش الماء على الخضار الطازج لتزيد توهجًا في عين الشمس المنصبة على الأوراق.

يدر هذا العمل على السيدة الستينية أجرًا يوميًا زهيدًا بين الـ (15 - 20 شيكل)، لكنّ على أية حال هو الفرصة الوحيدة لمواجهة الفقر والبطالة التي تعاني منها أسرتها المكونة من سبعة أبناء، فضلاً عن الأحفاد.

تدلل المرأة على بضاعتها أمام المارة، وتستمر على هذا النحو حتى نفاذ الكمية، وهذا غالبًا ما يحصل قبل غروب الشمس بقليل، ومن ثم تعود أدراجها إلى البيت تحمل الطعام والدواء لحفيدتها المريضة.

صحيح أن قانون التقاعد العام رقم (7) لسنة 2005م، يحدد في الفصل الخامس السن الإلزامي على تقاعد الشيخوخة (60) سنة، إلا أن "الصوص" لا تعترف بسن التقاعد، حيث اعتادت تحمل عناء مشقة العمل منذ وفاة زوجها قبل 36 عامًا. 

تتحدث هذه السيدة وقد حفر الشقاء خيوطه على يديها، عن تجربة الأرملة في تحمل عبء المسؤولية: "لقد تركني زوجي بلا معيل، وأصبحت أصارع من أجل توفير قوت أطفالي السبعة، فبدأت ببيع الأجبان ومن ثم الخضروات الورقية، وكنت طيلة الوقت انتظر أن يكبر أبنائي حتى يتحملوا شيئًا من هذا العبء، غير أن البطالة لم تدع لهم فرصة المشاركة في تحسين مستوى الدخل".

وارتفعت نسبة البطالة بين صفوف الشباب في قطاع غزة إلى نحو 50%، وفق آخر إحصاءات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. 

يسيطر الحزن على ملامح السيدة الستينية وهي تصف أكثر المشاهد قسوة بعد إنتهاء يوم عمل شاق، قائلةً: "كثيرًا ما أشعر بالهم والحزن، خصوصًا عندما أعود أدراجي إلى البيت ويطلب مني أحفادي مصروفًا، ولا أجد ما أعطيهم إياه، بعدلما أكون قد انفقت الإيراد اليومي على الطعام والعلاجات". وتضيف "هناك أناس يرافقهم الشقاء إلى الأجل".

ولم يتسنى لنا معرفة عدد النساء العاملات في الحرف والتجارة، غير أن نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة للعام 2021، بلغت نحو 17% من مجمل النساء في سن العمل، بينما بلغ معدل البطالة بين النساء المشاركات في القوى العاملة 43% مقابل 22% بين الرجال للعام ذاته. بحسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الصادر في آذار/ مارس 2022. 

ويساعد السيدة "الصوص" حفيديها لإبنتها، ويحمل كل منهما صندوقًا بلاستيكيًا ممتلئًا بالنعناع، يتجولان به بين المارة في أقدم سوق تاريخي في قطاع غزة ويمتد طوله لنحو 200 مترًا تقريبًا.

يقول حفيدها عاطف (9 أعوام) "بمجرد انتهاء الدوام المدرسي أسارع إلى السوق لمساعدة جدتي في البيع، وخصوصًا في شهر رمضان... هذا موسمه" يقولها ويبتسم.

ولا يعلم الحفيد ولا الجدة أن قانون الطفل الفلسطيني يحظر عمل الأطفال دون الخامسة عشر، ويسمح بعمل الأطفال 15-17 سنة بشرط ألا تكون تلك الأعمال خطرة، وأن تكون ساعات العمل قصيرة، وتوفير الكشف الطبي للأطفال كل 6 أشهر.

ولا ينتهي عمل "الصوص" عند عودتها إلى بيتها الواقع في بلدة بيت لاهيا شمال غرب قطاع غزة، حيث تعيش مع أبنائها وأحفادها تحت سقف واحد، بل تتجه إلى المزارع لشراء كميتها من الأوراق الخضراء التي ستبيعها في صبيحة اليوم التالي.

كان واضحًا أن هذه السيدة تواجه نوعين من التحدي، واحد مرتبط بالفقر والآخر بالعادات والتقاليد التي لا تقبل عمل المرأة في مهن البيع والشراء، لكنها إدعت عدم اكتراثها لنظرة المجتمع السلبية تجاه النساء العاملات، "فما حك جلدك غير ظفرك" قالت، ثم أشاحت بيدها وأخفت ملامحها بطرف شالها رفضًا لالتقاط صورة مباشرة لها!.