في ليلة باردة من شتاء 2025، كانت خلود تيسير (36 عامًا)، وهي نازحة منذ أكثر من عام في خيمةٍ غرب دير البلح وسط قطاع غزة، تحاول مع أطفالها الأربعة العثور على حيزٍ جاف في ظلّ الأمطار الغزيرة التي بدأت تتساقط داخل الخيمة وخارجها مختلطة بمياه الصرف الصحي.
الكارثة تكمن في أنّ مياه المطر المتساقطة تختلط بمياه الصرف الصحي التي تأتي من الحفر الامتصاصية المنتشرة بين خيام النازحين، وهو ما كان يُشكِّل التهديد الحقيقي، خاصّة بعدما بدأت المياه الآسنة تتدفق إلى خيمتها، مختلطة بالطين والروائح الكريهة؛ مما شكَّل خطرًا على صحة أطفالها.
فقدَت خلود كل شيء في الحرب الإسرائيلية التي اندلّعت في أكتوبر 2023، لا سيما زوجها وبيتها، كانت تتمنى فقط أن تجدّ مكانًا آمنًا لتنام فيه هي وأطفالها؛ لكنَّ مع كل قطرة مطر كانت تتساقط، كان الوضع يزداد سوءًا.
وفي تلك الأوقات العصيبة كان ابنها الصغير يدعى "محمود" يعاني من التهاب جلدي مزمن، بينما كانت صغيرتها جوري تعاني من آلامٍ معوية. وفي ظلّ غياب الرّعاية الصحيّة جرّاء الحرب. قالت بصوتٍ مفعم بالحزن: "أطفالي يمرضون كل يوم، وأشعر أنني عاجزة عن حمايتهم، لا أستطيع حتى تأمين مكان صحي وآمن لصحتهم".
هذا المشهد، الذي بات يتكرر في مناطق مختلفة من قطاع غزة، ليس مجرد مأساة فردية، بل تجسيد حيّ لانهيار منظومة الصرف الصحي بالكامل بعد أكثر من عامٍ من القصف والتدمير. فالحرب لم تُسقط البيوت فحسب، بل أصابت شرايين الحياة، حيث تفيض مياه الصرف الصحي على حياة المواطنين، وتتحوَّل الشوارع إلى مستنقعات ملوثة، وينهار النظام البيئي من تحت الأقدام.
الخبير البيئي نزار الوحيدي أكّد أنّ الوضع البيئي قد تدهور بشكلٍ دراماتيكي في قطاع غزة بعد الحرب، لكنّه في الوقت نفسه أشار إلى أنّ شبكات الصرف الصحي في غزة لم تكن تعمل بكفاءة قبل اندّلاع الحرب، إذ عانت من ضعفٍ مزمن وتعطل متكرر بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2007. وكانت خطوط الصرف ومحطات المعالجة تُدار بإمكاناتٍ محدودة، وتعاني من نقص المعدات وقطع الغيار وغياب الكوادر الفنية. ومع ذلك، كانت الشبكات تخدم أكثر من مليوني نسمة في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم.
بحسب بيانات سلطة المياه لعام 2021، كانت ست محطات رئيسية تعالج مياه الصرف في القطاع، من بينها محطة الشيخ عجلين التي كانت تتعامل مع نحو 18 مليون متر مكعب سنويًا، ومحطة شمال غزة بحجم معالجة تجاوز 14 مليون متر مكعب.
بعد اشتعال فتيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، تغيَّرت كل تلك الأرقام، وبفعل الهجمات العسكرية لم تعد محطات الصرف قادرة على العمل، فتحوّلت الأنابيب إلى خطوط مكسورة تنقل الموت البطيء لسكان قطاع غزة.
يتقافز السكان في الأحياء المدمرة من فوق مياه الصرف الصحي المتسرّبة بين الركام والطرق الوعرة. أم عمر فنانة من سكان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، نزحت من بيتها عدّة مرات جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023.
تقول أم عمر بصوتٍ منهك: "منذ الاجتياح الثاني للشجاعية في يونيو 2024، ومن ثم تكرار الأحزمة النارية المدمرة أصبحت الشوارع تغرق بالمياه العادمة عندما ينزل المطر أو تضخ بلدية غزة المياه في الخطوط المغذية للحي يومين أسبوعيا بسبب تكسر الأنابيب والطرق".
بلغت نسبة الضرر في شبكة الطرق، حوالي 68% من إجمالي طرق القطاع، إذ دمّر ما مجموعه 1190 كيلومترا، وذلك بحسب "تحليل أولي" أجراه "يونوسات" في 18 أغسطس الماضي.
ووفقًا لتقرير صادر عن مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، تضَرر أكثر من 90% من شبكة الصرف الصحي في شمال قطاع غزة. كما توقفت 22 من أصل 29 محطة ضخ عن العمل، وأصبح يتسرّب حوالي 60 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي يوميًا إلى شوارع غزة وشواطئها دون معالجة؛ ما يتسبب في تلوث اليابسة والبحر.
بالإضافة إلى ذلك، تُشير تقديرات محليّة بأنّ حوالي 35 مليون طن من الركام قد تراكمت في القطاع، وهو ما يُمثل تحدّيًا كبيرًا في عمليات الإصلاح.
يقول الخبير الوحيدي: "النتيجة لم تكن انهيارًا في البنية التحتية فقط، بل كارثة بيئية وصحيّة يصعب السيطرة عليها، خاصّة مع تعطّل محطات التحلية أيضًا، وتوقف ضخ المياه النظيفة، وتدمير محطات المعالجة، وكذلك تدمير خطوط أنابيب الصرف الصحي الرئيسية؛ ما أدى إلى توقف الخدمات الأساسية وتراكم المياه الملوثة، وأدى إلى حدوث تسرُّبات واسعة لمياه الصرف الصحي في الشوارع والبيئة المحيطة."
في مخيمات ومراكز الإيواء، حيث يعيش مئات الآلاف من النازحين في ظروف لا تتوفر فيها أبسط مقومات النظافة، تنقلت الأمراض بسرعة. فكان الأطفال أول الضحايا، يليهم كبار السن والنساء. ناهيك عن الروائح الكريهة، المياه الراكدة، والاختلاط بين مياه الاستخدام والصرف الصحي، كل ذلك شكَّل بيئة مثالية لانتشار الأوبئة.
أمل العرعير (38 عامًا) تقيم في خيمة مقامة على أنقاض مسكنها المدمر شرق مدينة غزة، تقول: "تنتشر الأمراض هنا كثيرًا فقد أصبت أنا وأولادي الأربعة ومعظم أفراد عائلتي وعائلة زوجي باليرقان على فترات متفاوتة".
وترّدف العرعير التي تعاني من التهابات مستمرة في الجهاز التنفسي إثر تعرّضها لنار الطهي على الحطب واستنشاقها الروائح الناتجة عن المياه العادمة والتي أضحت تشكل تضاريس شوارع المدينة، إنها لا تكف عن شراء العلاجات من أجل التخفيف من ألامها، ولكن دون جدوى، لأن الأسباب المؤدية إلى المرض لا تزال قائمة.
بدوره أكّد طبيب أمراض الجهاز الهضمي خالد مطر على وجود زيادة ملحوظة في حالات الإسهال، خاصّة بين الأطفال. وقال: "الأمراض الجلدية مثل التهابات الجلد الفطرية والبكتيرية أيضًا شهدت ارتفاعًا، بالإضافة إلى حالات التهاب الجهاز التنفسي الحادة نتيجة تلوث الهواء والمياه."
وأشار إلى امكانيّة الحدّ من تأثير تلّوث المياه على صحة الأطفال وكبار السن في المخيمات، وذلك من خلال توفير مياه نظيفة وعزل مياه الصرف الصحي عن الأماكن السكنية، وتحسين الظروف الصحية في المخيمات من خلال حملات توعية صحية وزيادة الإمدادات الطبية لمكافحة الأمراض المعدية.
أما عن الإجراءات الوقائية التي يمكن اتخاذها للحدّ من هذه المخاطر الصحيّة في ظلّ الظروف الراهنة، قال مطر: "يُفضل توفير أنظمة معالجة مياه محلية ومؤقتة، مثل الفلاتر، وزيادة الوعي بأهمية غسل اليدين واستخدام المواد المعقمة، بالإضافة إلى تحسين الظروف الصحية في المخيمات وتوفير اللقاحات المناسبة للأطفال".
وحتى نهاية يناير 2024، سجلت اليونيسف أرقامًا مقلقة في قطاع غزة، تضمنت إصابة 245,858 حالة التهاب بالجهاز التنفسي، وكذلك وجود 161,285 حالة إسهال، بالإضافة إلى 7,737 حالة يرقان، كما أصيبت آلاف الحالات بأمراضٍ جلدية وفيروسية أخرى.
مياه البحر الأبيض المتوسط التي لطالما شكَّلت المتنفس الوحيد لسكان غزة، باتت اليوم مصدر خطر مع توقف محطات معالجة الصرف الصحي.
في صباح شتوي من فبراير الماضي، بعدما عاد الصياد يوسف الهسي، من نزوحه جنوب قطاع غزة جرّاء الحرب، إلى مدينة غزة حاول استئناف عمله بعد انقطاع طويل؛ لكن تردد بعدما رأى تحوّل مياه البحر، التي كانت مصدر رزقه، إلى مكرهة صحية وخطرٍ يهدد صحته، بعد تدفق مياه الصرف الصحي مباشرة إلى البحر.
وعندما حاول الهسي سحب شبكة الصيد، اكتشف أن الأسماك التي اعتاد اصطيادها أصبحت ملوثة بالمواد الكيميائية والكائنات الدقيقة الخطرة. قال يوسف وهو ينظر إلى البحر الملوث: "لم أعد أعرف أين يمكنني الصيد، البحر الذي كان مصدر رزقي أصبح مليئًا بالفيروسات والمخاطر".
لم يكن يوسف وحده في معاناته، فقد شملت هذه المشكلة جميع الصيادين في غزة وعددهم (3606 صياد) حتى إحصاءات عام 2022، فيما بلغ عدد العاملين في قطاع الصيد حوالي 5606 شخص.
تتدفق مياه الصرف مباشرة إلى البحر، حاملةً معها مواد كيميائية وميكروبات تؤثر على الحياة البحرية. هذا التلوث لا يضرّ بالحياة البحرية فحسب؛ بل يمتد تأثيره إلى الصيادين والسكان الذين يعتمدون على البحر كمصدر للغذاء والرزق. فالأسماك التي كانت مصدرًا أساسيًا للروافع الاقتصادية أصبحت ملوثة، مما يزيد من معاناة سكان القطاع.
ويعود تلوث المياه بالصرف الصحي سلبًا على الحياة البحرية، وفقًا لما يؤكد عليه مختصون في علوم البحار؛ مما يزيد من نسبة المواد الكيميائية في المياه ويؤدي إلى تدمير الموائل البحرية وتدهور التنوع البيولوجي.
كما أن البكتيريا والفيروسات الملوثة قد تهدد الأنواع البحرية وتؤدي إلى تدهور الحياة البحرية، وهذا التلوث يمكن أن يكون له تأثير طويل الأمد، مثل تدهور الشعاب المرجانية وتلوث الأسماك؛ ما يهدد الثروة السمكية ويجعل بعض الأنواع البحرية مهددة بالانقراض.
أما في قطاع غزة فيؤثر تلوث البحر على مهنة الصيادين في غزة، حيث يجعل الأسماك غير صالحة للاستهلاك، مما يُضرّ بسمعة مهنة الصيد ويُعرِّض الصيادين لمشاكل صحيّة؛ بسبب التعامل مع الأسماك الملوثة. وينصح مختصون بضرورة تحسين محطات المعالجة البحرية بشكلٍ مؤقت واستخدام تقنيات بيئية لمعالجة المياه العادمة في البحر، بالإضافة إلى تكثيف حملات التنظيف للحدّ من التلوث.
في الأثناء قال الطبيب مطر: "إنّ تلوث مياه البحر بالصرف الصحي يُؤدي إلى انتشار العديد من الأمراض المُعدِّية، مثل الإسهال والتسمم الغذائي، والالتهابات الجلدية. كما يُسهم في زيادة حالات الالتهاب التنفسي بسبب استنشاق الهواء الملوث بالبكتيريا والفيروسات".
على الرغم من هذه الكارثة البيئية، فلا يبدو أنّ عملية الإعمار ستكون قريبة خاصّة بعد انهيار وقف إطلاق النار وعودة الحرب بقوة على قطاع غزة. بالإضافة إلى استمرار منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المعدات الثقيلة، والوقود، وقطع الغيار الضرورية.
وذكر تقييم أصدرته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي في فبراير الماضي، أن الاحتياجات اللازمة لإعادة إعمار قطاع غزة بفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ عام 2023، ستتجاوز 53 مليار دولار.
وعلى الرغم من أنَّ وزارة الأشغال العامة والإسكان في رام الله أطلقت استبيان لحصر الأضرار في المناطق الجنوبية (قطاع غزة)؛ إلا أنَّ الواقع يُشير إلى ضبابية المشهد للغاية فيما يتعلق بإعادة إعمار القطاع في ظلّ استمرار الحرب على غزة.
من جهتها، قالت المهندسة البيئية إسلام الهبيل، إنّ الحديث عن عملية إعادة الإعمار بات بعيدًا، وأشارت إلى الحاجة لتطوير محطات معالجة مياه الصرف بطرق أكثر كفاءة مثل استخدام تقنيات التصفية الحيوية أو بناء محطات معالجة متنقلة ومؤقتة. كما يمكن تحسين البنية التحتية باستخدام مواد مقاومة للتلف لفترات طويلة.
ودعت الهبيل إلى ضرورة أن تكون الأولوية في إعمار غزة لإعادة بناء المحطات الرئيسية وتوفير أنظمة مياه نظيفة للمناطق الأكثر تضررًا.
في الوقت نفسه، أفادت الهبيل أن هناك الكثير من التحدّيات في الوقت الحالي أمام إعادة إعمار قطاع غزة تتمثل في نقص التمويل، قطع الكهرباء، تدمير الآليات الثقيلة، منع دخول المواد والمعدات الطبية، واستمرار القصف لمرافق إعادة التأهيل.
يتنافى تدمير البنية التحتية للصرف الصحي في قطاع غزة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والبيئة، ووفقًا للمحامي يحيى محارب فإنّ هذه الممارسات الإسرائيلية تُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، حيث تُعطِّل حق السكان في الحصول على مياه نظيفة وبيئة صحية، ما يهدد الحق في الحياة والصحة.
وقال مُحارب: "هذا التدمير يعكس تقاعس الجهات المعنية عن حماية المدنيين خلال النزاع، لا سيما الفئات الهشة مثل النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة في المخيمات فهم الأكثر تضررًا من تلوث المياه بسبب ضعف مناعتهم وظروف حياتهم الصعبة، مما يزيد من معاناتهم الصحية".
وأشار المحامي المتخصص في القانون الدولي إلى التجاهل الدولي لمشاكل تدمير شبكات الصرف الصحي في غزة، وأردف: "يجب على المنظمات الإنسانية تكثيف جهودها للضغط على الأطراف المعنية لإدخال المواد اللازمة لإعادة بناء البنية التحتية وتحسين الوضع الصحي. كما يجب التركيز على الضغط الدولي لضمان وصول المساعدات الإنسانية ورفع القيود على المواد الأساسية، بالإضافة إلى تعزيز الدعوات للتحقيق في الانتهاكات ضدّ المدنيين".
البنية التحتية في غزة ليست مجرد شبكات؛ إنها شريان الحياة للمجتمع. وبتدمير الصرف الصحي وتدفق المياه الملوثة، واكتظاظ المستشفيات بالأطفال المرضى، وتحول البحر إلى تهديد، تصبح الحياة في غزة تحدّيًا مستمرًا. ومع كل ذلك، يظلّ أهل غزة متمسكين بالأمل، ينتظرون نهاية الحصار، عودة الكهرباء، ووقف الحرب لإعادة بناء ما دمرته الأزمات.
موضوعات ذات صلّة:
هكذا أصابت الحرب بيئة غزة في مقتل
سكان غزة يشقون طريقهم عبر الصرف الصحي
الناجون من الحرب قد تقتلهم النفايات
الغزيون يصنعون وقوداً: بطولة كارثية على الصحة والبيئة
إبادة الحياة في غزة.. جريمة بيئية مكتملة الأركان
مياه الصرف الصحي غزة