غزة: المناخ وجه آخر للمعاناة تحت الحرب

غزة: المناخ وجه آخر للمعاناة تحت الحرب

في يوم ربيعي من أبريل، تحاول حليمة جابر (55 عامًا) أن تُخفف حرارة جسدها المرتفعة بخرقة بالية مُبللة تضعها على جبينها المحموم داخل خيمتها المقامة على أنقاض بيتها المدمر في مخيم جباليا شمال قطاع غزة. 

هذا المشهد، وإن بدا عابرًا، يُجسد مأساة بيئية متفاقمة يرزح تحتها أكثر من مليون ونصف نازح في قطاع غزة، فهذه الخيام، التي أصبحت مأواهم بعد النزوح، لا تقيّ من تقلّبات الطقس القاسية فنهارها حرٌّ خانق، وليلها برد قارس.

تقول حليمة وهي تمسح حبيبات العرق عن جبينها: "أعاني كثيرًا من تقلب درجات الحرارة، وبين يوم بارد وآخر حار جدًا، أشعر بآلام في الرأس والمفاصل، إضافة إلى الرشح والبرد والتقيؤ. ابنتي أيضًا تعاني من ضعف المناعة مثلي بسبب سوء التغذية الذي نعاني منه هنا".

وتعكس حليمة معاناة آلاف العائلات الغزية التي تقبع في خيامٍ مؤقتة بعد تدمير عشرات آلاف المساكن. وتُمثل حالة الآلاف من الغزيين الذين فقدوا منازلهم جرّاء الدمار الكبير الذي لحق بالقطاع بفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، ودمّرت حوالي (161,600) وحدة سكنية بشكلٍ كامل، فيما أصبحت (82,000) وحدة سكنية غير صالحة للسكن، بالإضافة إلى تدمير جزئي لـ (194,000) وحدة سكنية.

في هذه الظروف، نصبَ العديد من العائلات خيامهم المصنوعة من القماش أو الصفيح على أنقاض منازلهم المدمرة. وفي فصل الشتاء، تصبح معاناتهم أكبر؛ حيث تتسبب الأمطار الغزيرة في غرق الخيام، مما يزيد من تفاقم الوضع الإنساني. في نوفمبر 2024، أفادت تقارير بأنّ الأمطار تسببت في غرق حوالي 10,000 خيمة، مما أدى إلى تشريد المزيد من العائلات.

ووفقًا للطبيب أحمد الربيعي، المتخصص في الأمراض الصدرية، فإنّ مُعدّلات الإصابة بالأمراض التنفسية والنزلات المعوية ارتفعت في قطاع غزة عن السابق، وخاصةً بين قاطني الخيام، موضحًا أنَّ أغلب المرضى حاليًا مصابين بالتهابات الشعب الرئوية إثر تقلّبات الطقس ما بين الأجواء الباردة والحارة.

يضيف الربيعي أنّ التقلّبات المناخية تُؤثر على مناعة الجسم؛ مما يُضعفها ويرفع نسبة الإصابة بالأمراض، كما تؤدي إلى صدمة حرارية تُضعِف قوة الجسم، فبينما تُصيب الأجواء الحارة الإنسان بالإنهاك الحراري المتمثل بارتفاع درجة حرارة الجسم والغثيان والدوخة، تؤدي درجات الحرارة المنخفضة إلى تقلّص الأوعية الدموية في الحلق والأنف؛ مما يسبب مشاكل في الجهاز التنفسي.

رامي صالح (34 عامًا)، يعيش في خيمةٍ في خانيونس بعدما دمّرت الآليات الإسرائيلية بيته في منطقة المخابرات شمال قطاع غزة، فآثر البقاء رفقة زوجته وأطفاله الثلاثة في مخيمٍ للنزوح لعدم مقدرته على العودة وإنشاء خيمة بجانب ركام بيته، ويعاني من التقلّبات المستمرة في درجات الحرارة؛ مما تسبب له في إرهاقٍ دائم واضطرابات مزاجية.

يقول وهو يمسح وجهه الذي يميل للاصفرار من الشحوب: "لا تقينا الخيمة من برد الشتاء، ولا من حرّ الصيف، قبل أسبوعين كانت ستطير خيمتي من قوة الرياح وبرودة الجو ليلًا، وفي اليوم التالي مباشرة كانت الشمس الحارقة تضرب في رأسي، فأهرب مع الصغار من الخيمة لخارجها، بينما تقوم زوجتي بكل مهام اليوم من غسيل وطبيخ بالخارج".

وتسببت هذه التقلّبات لرامي بجملة من المشكلات الصحيّة لاسيما التسمم الغذائي الذي أصاب أطفاله عدّة مرات، ومعاناتهم جميعًا من سوء التغذية الذي يزيد من عُرضتهم للأمراض خاصة الموسمية منها وظهور علامات الهزال عليهم باستمرار.

وينصح الطبيب الربيعي العائلات الغزية من قاطني الخيام بالتحقق من سلامة الأطعمة خلال الأجواء الحارة فارتفاع درجات حرارة الخيام يتسبب في إفساد الطعام؛ ما يزيد من احتمالات التسمم الغذائي، كما يُفضل الابتعاد عن تناول السكريات للحفاظ على المناعة، وشرب كميات كبيرة من المياه لتجنب الجفاف.

بينما تُبذل جهودٌ إنسانيةٌ لتخفيف معاناة قاطني الخيام في غزة، حيث تقوم بعض المنظمات بتوزيع خيامٍ مقاومةٍ للتقلبات المناخية، وتقديم المساعدات الطبية والدعم النفسي للنازحين الذين يعانون ويلات البرد القارس والحرّ اللافح؛ إلا أنَّ هذه الجهود -على أهميتها- تظلّ محدودةً ولا ترقى إلى مستوى الكارثة الإنسانية المتصاعدة، خاصةً بعد إغلاق الاحتلال المعابر ومنع إدخال الخيام والكرفانات مطلع مارس الماضي؛ ما ترك 280 ألف أسرة بلا مأوى. 

وبعد اهتراء 110 ألف خيمة خلال الحرب الإسرائيلية الممتدة على مدار 18 شهرًا، تحوّلت هذه المساعدات إلى قطرة في محيط من الاحتياجات، حيث يعيش النازحون في خيامٍ بالية لا تقيّهم حرّ الصيف ولا برد الشتاء، تحوّلت بفعل الحصار والدمار من ملاذ مؤقت إلى سجن دائم بلا سقف يحمي من قسوة الطبيعة أو قيود الاحتلال.

في خيمةٍ بالية لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، تجلس سهاد نصار (44 عامًا) وقد غطى الإرهاق ملامحها، بينما تحاول بيدٍ مرتعشة إسقاط قطرات ماء على جبين طفلتها التي تعاني من نزلة برد حادّة. تقول سهاد: "كل يوم معركة جديدة، البرد ليلًا ينهش عظامنا، والنهار يحوّل الخيمة إلى فرن".

لجأت سهاد إلى وضع ألواح صفيح حول الخيمة كمحاولة يائسة للوقاية من حرارة الشمس، لكنّه حلٌّ بات أشبه بـ "مفخخة موقوتة": "عندما تهب العواصف، تطير الخيام مثل الورق، ونبقى عالقين بين خيارين: إما الاختناق تحت النايلون، أو التعرّض للعواصف في العراء".

الأمر لا يقتصر على المعاناة الجسدية، فوفقًا للمختصة النفسية فلسطين ياسين، فإنّ 85% من سكان الخيام يعانون أعراضًا نفسية حادة، أبرزها اضطرابات النوم والقلق المزمن، نوبات غضب غير مبررة، واكتئاب مصحوب بتسارع ضربات القلب.

وتقول ياسين: "التقلّبات المناخية في قطاع غزة لم تعد مجرد تحدٍ بيئي؛ بل أصبحت أداة قتل بطيء، فكل موجة حرّ أو برد تخلّف وراءها أمراضًا جسدية وجروحًا نفسية لا تُدمّل".

ويعزز الإجهاد الجسدي والنفسي الذي تؤدي إليه التقلّبات المناخية الشعور بالعزلة والضغوط النفسية. فيما تقترح ياسين بعض التقنيات للتخفيف من هذه الضغوط، مثل تنظيم الخيمة وتوفير بيئة مرتبة تساعد على تقليل الشعور بالفوضى، ومحاولة الاندماج مع الآخرين في المحيط الذي يعاني نفس الصعوبات.

إلى جانب التأثير المباشر على صحة الإنسان، خلّفت الحرب الأخيرة على غزة أزمة مناخية غير مسبوقة. وهو ما يوضحه المختص البيئي سعيد العكلوك أنَّ الدمار الشامل حوّل القطاع إلى بؤرة للتلّوث المناخي، حيث تفاقمت مشكلة الاحتباس الحراري بشكلٍ كبير.

ويكشف العكلوك عن كارثة بيئية تبدأ بكميات الركام الهائلة التي تصل إلى 63 مليون طن، والتي ستطلق عند إزالتها حوالي 630 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون - أيّ ما يعادل انبعاثات 135 دولة صغيرة لمدة عام-. وقد أسهم تدمير المساحات الخضراء وانتشار الركام في رفع درجات الحرارة المحلّية بنسبة 40%، مما زاد من حدّة التقلّبات المناخية.

هذه التغيرات الجذرية جعلت أبسط التقلّبات الجوية -مثل موجة حرٍّ عابرة أو أمطارٍ خفيفة- كافية لإثارة أزمات إنسانية. وتُشير التقدّيرات إلى أن هذه التدّاعيات المناخية ستستمر لعقود، مما يضع السكان أمام تحدي يومي للتكيّف مع ظروف مناخية مُتطرّفة تهدد صحتهم وسبل عيشهم.

يتنافى ما تمارسه "إسرائيل" في حربها الشرسة على قطاع غزة من دمارٍ هائل وإغلاق المعابر وما يتسبب به من منع إدخال آليات إزالته ومنع إدخال خيام وكرفانات للسكان وما ينتج عنه من آثار صحيّة كارثية على الإنسان والبيئة، مع المعايير الدولية التي تدعو إلى ضرورة حماية المدنيين خلال الحروب.

في هذا السياق، يؤكد المحامي يحيى مُحارب أنّ منع إدخال الخيام والكرفانات يشكل جريمة حرب بموجب المادة 54 من البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف، التي تحظر تجويع المدنيين أو حرمانهم من المأوى كأسلوب حرب.

ويشكّل تدمير المنازل على نطاق واسع -كما حدث في غزة- انتهاكاً صارخاً للمادة 53 من اتفاقيات جنيف الرابعة التي تحظر التدمير التعسفي للممتلكات، وكذلك للمادة 147 التي تُجرِّم التدمير الواسع للمنازل.

كما يشير المحامي المتخصص في القانون الدولي إلى أنّ تدمير البنية التحتية المناخية (كالمساحات الخضرية وأنظمة التهوية) يندرج تحت "التدمير البيئي" الذي يعاقب عليه نظام روما الأساسي.

بين ركام المنازل المدمرة وخيام النزوح الهشة، لم يعد سكان غزة يواجهون القصف فحسب، بل صاروا أسرى معادلة قاتلة: حرّ يذيب أجسادهم نهاراً، وبرد ينخر عظامهم ليلاً، وركام يخنق مستقبلهم. وهنا تنهار كل خطوط الدفاع - من القانون الدولي إلى الإنسانية الأساسية - تتحوّل كل موجة حر أو برد إلى حكم إعدام جماعي بطيء، في انتظار تحرك دولي قد لا يأتي أبداً.

 

موضوعات ذات صلّة:

هكذا أصابت الحرب بيئة غزة في مقتل   

الرطوبة وانعدام التهوية تزيد النازحين اختناقاً

صدمات مُناخية تُواجهها النساء في خيامِ النزوح

خبراء: إبادة البيئة بغزة دمّرت مساحات عيش الأجيال القادمة

الإبادة البيئية في غزة لاستدامة الفناء