في خيمةٍ صغيرة بمواصي خانيونس جنوب قطاع غزة تجلس مصممة الأزياء ولاء أبو ضباع (40 عاماً) أمام ماكينة خياطةٍ نجت من تحت أنقاض مشغلها، الذي حوّلته الحرب إلى مجرد ركام.
قصف مشغل المصممة أبو ضباع في بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة في 2023، وبعدما تمكنت من انتشال ماكنتها من تحت الأنقاض أصبحت شريكتها الدائمة في رحلات النزوح، وفانوس الأمل الذي يُساعدها على توفير لقمة العيش.
منذ الصغر كان التطريز يثير ولاء، فقد شعرت فيه بالأصالة ورافقها الشغف طوال سنوات طفولتها حيث كانتُ تتقن الغرزة الفلاحية القديمة وتنامت مع مرور الوقت موهبتها في التطريز.
في نفس الوقت، كانت تصاميم الأزياء تأسر الحائكة أبو ضباع، وتنقل عن أمها أنها كانت دائما تذكرها بطفولتها وأنها كانت تخبرها أنها كانت مُولعة بقص القماش وتشكيله.
تقول ولاء: "أمي كانت تقول لي دائما أنها كانت تعثر في أماكن جلوسي وأنا طفلة على أدوات الحياكة، وأنني كنت شغوفة بالإبرة والخيط، وأني كنت أحول قطع القماش البالية إلى فساتين للدمى".
وعلى الرغم من هذا الشغف، لكن ولاء لم تصقله بالتعلم، حيث سلكت طريقًا مختلفًا على المستوى العلمي، فأنهت دراسة اللغة الإنجليزية في مرحلة البكالوريوس ثم درست علم الاجتماع، ومع ذلك لم تتمكن من العثور على فرصة عمل.
هنا كان اتباع الشغف بالنسبة لولاء ضرورة. وعن ذلك قالت "قررت أن أتبع شغف طفولتي وأن أقوم بتطوير مهاراتي في تصميم الأزياء والتطريز، وتلّقيت دورات تدريبية في مراكز متخصصة في قطاع غزة، وتخرجت على أيدي مصممين كبار كهاني مراد، وحصلت على مشاريع تصميم مع شركات مثل "خيطان غزة".
وأضافت ولاء: "لكن الحرب أخذت كل شيء، وتحوّلت حياتي من مصممة أزياء إلى حائكة وسط خيمة بالية لا تقي بردا ولا تحجب شمسا".
صممت ولاء عشرات الأثواب الفلسطينية العصرية بتطريزٍ آلي ويدوي، وقالت إنها عملت على مشروع نوعي ونادر وهو استعادة بعض الغرز القديمة التي تُزين أثواب الجدات قبل عقودٍ من الزمان، ونقلها إلى فساتين حديثة.
تردف: "لم أكن مولعة بالتطريز كتراث فقط، بل كنت أحتفظ به وأحييه من خلال أعمالي في مجال الحياكة وتصميم الأزياء".
في العامين الأخيرين قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع، سلكت ولاء مسلكاً مختلفًا في مجال التصميم، حيث تخصصت في تصميم الزي الرسمي للمصانع والشركات الكبرى في غزة إلى جانب عملها في تصميم الأثواب الفلسطينية التراثية بأنماطٍ عصرية.
وقالت إنها انفردت بمشروع توفير مستلزمات الأفراح الفلسطينية التقليدية، مثل أدوات الحنة، الفخار، الأثواب، سلال القش المزينة؛ لتحقق حلمها بإحياء تلك العادات التراثية في أعمالها، فابتكرت تصاميم وموديلات تتناسب مع أذواق الجيل الجديد، مع الحفاظ على أصالة الثوب الفلسطيني القديم.
وأنتجت آخر موديلات الملابس النسائية التي صممتها ونفذتها قبل الحرب بأيام قليلة، لعرائس موسم الشتاء 2023، لكن الحرب سحقتها وأبقتها المجموعة تحت الأنقاض.
وبخاصة أن الحرب دمّرت مشغلها، وأفقدتها كل شيء، إلا ماكينة الخياطة الناجية الوحيدة التي أصبحت شريكتها لتكون بريق أمل لها وسط الخراب.
وهذه النجاة لم تمكن السيدة أبو ضباع من التأقلم مع الظروف، حيث أصيبت بآلامٍ نفسية شتى ودخلت في نوبات اكتئابٍ شديدة، وشعرت بالمرارة على ما سلبتها الحرب إياه، فكلما استذكرت لحظات صعودها على المنصات وتلّقيها الأوسمة واحتفاء المصممين برقي أعمالها التي حاكت فيها الأصالة والحداثة في آنٍ واحد، كانت تشعر بالكثير من الأسى والإحباط.
لطالما قدّمت ولاء نفسها كمصممة أزياء انتزعت اللقب عن خبرة وجدارة في هذا العالم الابتكاري؛ لكنّ الحرب حوّلتها من مصممة أزياء لأكبر الشركات في غزة إلى محض خياطة في خيمة وظيفتها تقصير الملابس وتضييقها، فكانت خسارتها فادحة في البيت والمال واسمٌ صنعته على مدار سنينٍ طويلة من الكدّ والعمل، لم تكن مجرد خسارة مادية، بل كانت خسارة حلمٍ بدأته بكل شغف، حسب وصفها.
من خلال عملها كمصممة أزياء، كانت ولاء -وهي أم لخمسة أبناء- تساهم في مصروفات الأسرة، وتخصص مبلغًا لدراسة ابنها الذي يلتحق بكلية الطب في إحدى الجامعات المصرية؛ ولكن بعد تدمير مشغلها في الحرب أصبحت تواجه أزمة مالية خانقة.
"خسارتي كانت كبيرة، فقد فقدت ست ماكينات خياطة اشتريتها بشق الأنفس، بالإضافة إلى العديد من المعدات التي كانت تروي قصة مختلفة لكل واحدة منها" تقول ولاء.
تردف السيدة التي نالت الشمس من بشرتها وأصابتها بالندوب "أجلس داخل حرارة الخيمة الحارقة أمام هذه الماكنة الوحيدة وأسترجع ذكرياتي في المشغل وأنا أقلب في ألبوم الصور عبر الهاتف، فيظهر في مخيلتي شريط ذكريات طويل لم يعد له أثر".
ولاء ليست الوحيدة التي دمّرت الحرب مشروعها الصغير، تُشاركها الكثير من النساء في غزة اللواتي فقدن مصادر دخلهن بسبب الحرب الإسرائيلية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا؛ وألقت بظلالها الكارثية على الاقتصاد المحلي عامة. ووفقًا لتقاريرٍ محلّية ودولية، ارتفع معدل البطالة جرّاء الحرب إلى 80%، كما تأثر 90% من أصحاب المشاريع الصغيرة بشكلٍ سلبي.
تقول ولاء في حديثها لـمراسلة "آخر قصة": "كان لديَّ أمل دائم طوال فترة الحرب وأنا أرى ماكينة الخياطة بجانبي أن أعود للعمل يومًا ما؛ لكن عودتي جاءت مختلفة، إذ أصبح عملي مقتصرًا على بعض الأعمال البسيطة المحدودة التي لا تتلاءم مع خبرتي وتمرسي، ولا تحقق لدي الدخل الذي أحتاجه".
وأوضحت أنها تعاني اليوم صعوبات مادية ولوجستية تجعل العودة للعمل بشكل كامل أمرًا صعبًا، خصوصًا في ظلّ إغلاق الاحتلال للمعابر وقلّة توفر الأقمشة والأدوات اللازمة لافتتاح مشغل من جديد.
اليوم، رغم كل ما تمر به ولاء من صعوبات وتحدّيات، لكنها لا تزال متمسكة بما تبقى بأمل العودة مجدداً إلى ممارسة شغفها، لكنها رهنت ذلك بانتهاء الحرب، رغم أنه لا يوجد أفق لوقف إطلاق النار.
وختمت ولاء حديثها بالقول: "أحيانًا أشعر أن أحلامي قد تخنقني، لكني لا أستطيع الاستسلام. ما زلت أؤمن أنني سأبدأ من جديد. ربما ليس اليوم، ولكن يومًا ما، سأحقق حلمي وأعيد إحياء ما ضاع."
موضوعات ذات صلّة:
ورود الدهشان: من رماد الحرب إلى العالمية
مرسم ميساء: نجا من الحرب ليكون ملاذًا للأطفال
ولاء أبو ضباع