معاناة النازحات بين انهيار المأوى وندرة الماء

معاناة النازحات بين انهيار المأوى وندرة الماء

مخطئ من يعتقد أن الأمطار الغزيرة تُروي العطش، أحياناً تتسرب عبر خيام النازحين الهشة في قطاع غزة، محولة الأرض تحتها إلى مستنقعات من الطين والوحل، بينما يظل السكان عطشى.

إغلاق آخر محطة تحلية للمياه، وانقطاع الكهرباء، حوّلا الحصول على كوب ماء نظيف إلى معجزة يومية، حيث بات 90% من سكان القطاع غير قادرين على تأمين مياه شرب آمنة، في حين تتحول مياه الأمطار من نعمة إلى نقمة.

تجلس السيدة هديل (32 عامًا) داخل خيمتها المبتلة في جنوب قطاع غزة، محاولةً حماية أطفالها الأربعة من برودة الشتاء القارس.

"لا يوجد ما هو أصعب من رؤية أطفالك يرتجفون من البرد ولا تملكين حتى غطاءً جافًا لتدفئتهم"، تقول بينما يتسلل الماء من سقف الخيمة إلى الفراش الوحيد الذي ينامون عليه. تحاول الأم أن تحافظ على نظافة صغارها، لكن شحّ المياه يجعل كل قطرة ثمينة. "أطفالي لم يعودوا يبكون عندما تبتل أقدامهم، تعودوا على الألم"، تضيف بمرارة.

على بعد كيلومترات منها، تجلس مها (28 عامًا) مع طفلها ماهر (5 أعوام) في خيمة أخرى. يحاول الصغير الإمساك بطرف وشاحها، بينما يحدّق بخيمة مشمّعة بالكاد تحميهم من المطر. "ماما، متى نعود لبيتنا؟"، يسألها يوميًا. لكن البيت لم يعد موجودًا. تقول مها: "في كل ليلة، يختبئ ماهر تحت البطانية خوفًا من صوت القصف، ويصرخ: 'أريد سريري القديم!'".

نزوح بلا نهاية: من الخيمة إلى الشارع والعكس

وفقًا للأمم المتحدة، نزح 1.9 مليون فلسطيني (ما يقارب 90% من سكان غزة) منذ بداية الحرب، بعضهم هُجّر أكثر من 10 مرات. عندما أتى وقف إطلاق النار المؤقت، عاد نصف مليون شخص إلى شمال القطاع، ليجدوا أن 90% من منازلهم إما مدمرة بالكامل أو غير صالحة للسكن.

"عدنا إلى أنقاض منزلنا، فلم نجد سوى حائطين مائلين"، تحكي هديل. "جمعنا بعض الأغطية وحاولنا النوم بين الركام، لكن المطر غمر المكان، فعدنا إلى الخيمة". أما مها، فلم تجد حتى أنقاض منزلها. تقول: "كل ما تبقى هو رائحة الغاز والغبار. حتى ذكرياتنا احترقت".

في خيمة هديل، ينتشر الذباب على وجوه الأطفال النحيلة، بينما تحاول الأم إيقاف سعال طفلها الأصغر بالاعتماد على أعشاب محلية. "ابني يعاني من التهاب رئوي، لكن لا مستشفيات ولا أدوية"، تقول. انهيار نظام الصرف الصحي زاد الطين بلة، فالشوارع تحولت إلى مجارٍ مفتوحة، والأمراض تتفشى. وفقًا للأمم المتحدة، 89% من مرافق المياه والصرف الصحي دُمرت أو تضررت.

أما مها، فتهرب من كابوس آخر. بعد أن فقدت منزلها، لجأت إلى مدرسة، لكنها قُصفت. انفصلت عن زوجها عند حاجز عسكري، ولم تعرف عنه شيئًا منذ أشهر. "أطفالي يسألونني عن أبيهم كل يوم، وماذا أقول لهم؟ أنني لا أعرف إن كان حيًا أم لا؟".

وعلى الرغم من دخول فصل الربيع، لكن لايزال البرد ينخر عظام النازحين الذين كانوا يعتمدون في الأيام القليلة الماضية على مياه الأمطار لاستخدامها في الغسيل. تقول هديل "عندما تمطر، نضع الأوعية الفارغة لتحصيل ماء نظيف، لكنه مليء بالأوساخ". أما مها، فتصف لياليهم: "ننام مثل قطع السردين، ملتصقين ببعضنا للتدفئة. الخيمة لا تمنع الرطوبة، فأطفالي يمرضون تباعًا".

منذ أكتوبر 2023، وزّعت المنظمة الدولية للهجرة أكثر من 1.56 مليون مادة إغاثية، منها 300,000 خاصة بالمياه والنظافة. لكن القيود المفروضة على دخول المساعدات منذ مارس/آذار جعلت حتى الخيام المشمّعة رفاهية، وفق إفادة المنظمة.

"حصلنا أخيرًا على خيمة بعد 3 أشهر في العراء"، تقول مها. "لكنها لا تمنع الفئران من الزحف إلينا ليلًا". بالنسبة لها، لم يعد الهمّ توفير الطعام، بل حماية الأطفال من الحيوانات الضالة والأمراض.

"أناشد العالم: انظر إلينا كبشر، ليس كأرقام"، تبكي هديل. "أطفالي لا يريدون ألعابًا، بل يطلبون شربة ماء نظيفة". أما السيدة مها، فتمسك بيد ماهر وتقول: "كل ما نريده هو أن نعرف إن كنا سنعيش حتى الغد".

في غزة، لم يعد المطر علامة على الحياة، بل صار اختبارًا يوميًا للبقاء. والخيام لم تعد مأوى، بل شواهد على صمود لمدنيين يُحاربون العطش والوحل والقهر، في انتظار معجزة لوقف هذه الحرب المستمرة منذ نحو عام ونصف.