شارع واحد في مخيم الشاطئ الواقع غربي مدينة غزة، ينبئ بحجم الكثافة السكانية داخل هذه الكتلة الخرسانية الممتدة على مساحة 0.52 كيلومتراً مربعاً. يُعَد مخيم الشاطئ المتاخم للساحل ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وواحداً من أكثر المخيمات اكتظاظاً بالسكان، ويسكنه أكثر من 85,628 لاجئاً.
والقصة الحقيقية لا تنحصر في المخيم، لكن تنطلق منه بصفته مثالاً حياً لحجم الكثافة السكانية في قطاع غزة. هذه الكثافة عائدة أساساً إلى معدلات الإنجاب التي تتضاعف على نحو غير مسبوق في قطاع يعيش أكثر من نصف سكانه على المساعدات الإنسانية.
يشير آخر تحديث صادر عن وزارة الداخلية بشأن معدلات الإنجاب في القطاع، إلى أنه سجل 15.269 مولوداً جديداً خلال الربع الثالث من العام الحالي، في مقابل 1438 حالة وفاة.
وبيّنت الإحصائية أن عدد مواليد القطاع الذكور بلغ 7879 مولوداً تقريباً، بنسبة تقدَّر بـ 51.7%، في حين بلغت النسبة التقديرية للمواليد الإناث 48.3 %، بواقع 7390 مولودة. ومن بين محافظات غزة الخمس، تركزت النسبة الأعلى للإنجاب في محافظة غزة.
لدى تحليل الرقم الآنف نجد أنه يولد في اليوم الواحد قرابة 169 مولوداً، أي ما يعادل سبعة مواليد كل ساعة، وهو رقم ينذر بخطورة وقوع انفجار سكاني في ظل محدودية المساحة الجغرافية، بالإضافة إلى أنه يترافق مع انسداد الأفق السياسي وتردّي الواقع الاقتصادي.
خطورة لا تلقى اهتماماً لدى السكان، إذ يقول المواطن أبو محمد عبد ربه (50 عاماً)، من سكان محافظة شمال قطاع غزة، إنه ليس مضطراً إلى التوقف عن الإنجاب بسبب محدودية مساحة مسكنه الذي يقيم به 14 فرداً، وأضاف: "هؤلاء هم عِزوْتي".
عبد ربه واحد من مئات، وربما آلاف، أرباب الأُسر الذين لا يؤمنون بفكرة تحديد النسل، إذ يقول وهو يسند رأسه إلى جدار بيته المتهالك: "إذا قمنا بتحديد النسل، معنى ذلك أننا نعطي إسرائيل فرصة الانتصار علينا ديموغرافياً".
يخلط الرجل بين الجد والهزل وهو يقول: "أحياناً أواجه صعوبة في التفريق بين أسمائهم (يقصد أبناءه الأربعة عشر)، ولكن لا بأس، غداً يكونون سنداً لي ولأمهم".
يتقاطع ما قاله المواطن عبد ربه مع ترجيح أستاذ الجغرافيا البشرية في الجامعة الإسلامية رائد صالحة، أن زيادة معدلات الإنجاب في غزة تعود إلى سببين رئيسيين: الأول، أن القطاع لا ينفك عن كونه مرتبطاً بالصراع الديموغرافي، وهي محاولة من الفلسطينيين في اتجاه مواجهة التنامي الديموغرافي لدى الاحتلال، مؤكداً أن تحديد النسل خارج حسابات الفلسطينيين، في ضوء ما تفعله إسرائيل من توسيع لدائرة الاستيطان بصورة دائمة ومستمرة.
أما السبب الثاني، بحسب صالحة، فهو سبب اجتماعي بحت، محصور في فكرة "العزوة"، مشيراً إلى أن هناك أسر لديها معدل مواليد مرتفع نسبياً، إذ يصل إلى 13 فرداً، غير أنه عاد وأكد أن المعدل العام هو 5 أطفال لكل امرأة.
ويُطرح السؤال الأكثر صعوبة على الفهم والإدراك كيف يتسع القطاع لهذا الكم من الناس؟ ووفقاً لجهاز الإحصاء الفلسطيني، أكثر من ثلث السكان من الفلسطينيين المقيمين بدولة فلسطين يقيمون بغزة، حيث قُدِّر عدد السكان بنحو 5.2 مليون؛ 3.1 مليون في الضفة الغربية و2.1 مليون في قطاع غزة. وبلغت نسبة اللاجئين في سنة 2017 نحو 42 % من مجمل السكان الفلسطينيين المقيمين بدولة فلسطين؛ بواقع 26% في الضفة الغربية و66% في قطاع غزة.
وللتحايل على هذا الواقع، يضطر السكان إلى بناء طبقات إضافية، عشوائيا،ً لاستيعاب عائلاتهم، الأمر الذي قلّص نسبة المرافق الترفيهية والاجتماعية العامة، فضلاً عن أن المئات من الأُسر تعيش في ظروف متدنية وغير مناسبة.
وبالعودة إلى مخيم الشاطئ، على سبيل المثال لا الحصر، يوجد فيه 25 مدرسة، ثلاث مدارس تعمل بنظام الفترة الواحدة، و22 بنظام الفترتين، وفيه مركز توزيع أغذية متهالك، إلى جانب مركز صحي واحد، وفقاً لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وهذا يشكل انعكاساً لحجم الحاجة المتزايدة إلى كافة أشكال المرافق، سواء الصحية، أو الترفيهية، أو حتى المساكن.
لكن حتى موضوع التوسع الرأسي في المباني لا يُعتبر حلاً كافياً، إذ تفيد وزارة الأشغال العامة والإسكان بأن العجز في الوحدات السكنية في القطاع يصل إلى 120 ألف وحدة.
ويشير وكيل وزارة الأشغال العامة في قطاع غزة ناجي سرحان إلى أن القطاع يحتاج إلى 14 ألف وحدة سكنية سنوياً، مبيناً أن عشرات آلاف العائلات الفقيرة والمحدودة الدخل تعاني جرّاء عدم توفُّر مأوى ملائم نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية.
وبكل تأكيد تضاعفت هذه الحاجة نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في أيار/مايو الماضي، والذي تسبب بتدمير 1500 وحدة سكنية تدميراً كلياً، بالإضافة إلى 880 وحدة دُمرت جزئياً وغير صالحة للسكن، و56 ألفاً ما بين جزئي وطفيف، وفقاً لتصريحات سرحان الأخيرة.
وأكد أن قطاع غزة بحاجة إلى ثلاثة مليارات دولار لعملية إعادة إعماره، وقال: "القطاع بحاجة إلى مليار دولار من أجل تعمير الأضرار التي خلّفتها موجة التوتر الأخيرة في أيار/مايو الماضي والحروب السابقة عليه، وإلى مليارين لإنعاش غزة من جديد وإعادتها إلى الحياة".
في غضون ذلك، أكد مصدر مطّلع في وزارة الأشغال العامة والإسكان لموقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" أن وزارته راعت خلال عملية حصر الأضرار ضرورة العمل على تضمين البنى التحتية وتأهيلها، بالإضافة إلى تحسين ظروف الحياة، بما في ذلك توفير وحدات سكنية لاستيعاب الكثافة السكانية القائمة في القطاع، ضمن خطة الإعمار.
وقال المصدر: "لا يُعقل أن تُستثنى إعادة بناء بيوت الفقراء المتهالكة من عملية الإعمار، فضلاً عن توفير وحدات سكنية جديدة لاحتواء الأعداد المتزايدة من السكان سنوياً، لكننا ندرك أن هذا ليس حلاً كافياً في المدى البعيد.. فغزة بحاجة إلى تخطيط منطقي ومدروس يحول دون حدوث انفجار سكاني وشيك".