إنها الثانية فجر ليل الثامن عشر من مارس آذار، إنها الليلة الأولى التي استسلم فيها لنوم مخادع أو مضطر كما كان يحدث طوال المدة السابقة على مدار أيام الحرب، استسلمت لألم صداع لم يتوقف إذ إنه جاء بفعل صوت طائرة الاستطلاع "الزنانة"، التي بدأت فعل تعكير صفو الحالة على ضعف راحتها منذ صباح اليوم الذي سبقه أي قبل ساعات من الثانية منتصف هذه الليلة واستمرت حتى ساعات المساء، وكأنّها تسير مع خطواتك سواء في الطريق أو السوق، أخال أنها تحسب عدد خطواتنا وسعراتنا الحرارية المحروقة في خط سيرنا، واحدة من نكات الحرب كانت أنّها تفوق تطبيقات حساب الخطوات، أو أنّها تشبه ظننا القديم بأنَّ القمر في السماء يسير معنا نحو وجهتنا.
لكنها ليست بهذه الرقة واللطف المقصود في إقران الشبيه، إنها أبشع صوت ممكن أن يزور ذهنك ومسامعك. هي على أية حال واقع مفروض لا يمكن محاربته، صباح اليوم ذاته جاءني أحد صغار البيت يحمل لعبته الموسيقية لا يقوى على الاستماع إلى إرشاداتها وصوت عزفه وطالبني أن أسُكِت صوت هذه الزنانة، لأنه لم يستطع أن يمارس حقه في الاستمتاع بلعبته هذه، ضحكت وقلت له: اجلب لي ولك ولغزة عصا سحرية ومضينا نتخيل أنّ كل ما يقع بين يدينا هو عصا سحرية تسكت صوت هذه الزنانة وأخذ الصغير يلوح لها من النافذة بعصا بلاستيكية.
إنّها الثانية فجر هذا الليل ليوم سابق في صراع الصوت وتصاعد توتر الأخبار بأن هاجس عودة الحرب اقترب، وساعة صفر الحرب عادت وبقوة وتفرض نفسها على خطواتنا؛ لكننا على أية حال نعاملها معاملة الإنكار والإهمال فما الذي سيحدث أسوأ مما حدث على مدار أيام الإبادة التي ما زالت مستمرة.
هكذا إذن قررت يد الحرب أن تضرب وتد النوم وبقوة، أطلقت أحبال موتها فجأة كعادة الموت وعادة القتل بعد أيام ظننا فيها بأنَّ يد الحرب ارتاحت قليلاً كي نستطيع البكاء على جروح قديمة.
لكنها عادة الحرب التي لم نخرج منها يوماً، الليلة التي أعادتني أصوات انفجاراتها لأول ليلة دارت فيها دائرة الحرب فزع وليس أي فزع، ربما لم أجد بديلاً مرادفاً لحالة الشعور التي حركتني نحو النوافذ أرقب صوت الانفجار ومصدره وسببه، وبدأت أذكر الليالي التي تشبه هذا الصوت وهذا الفعل، الأصوات تأتي متتابعة انفجارات وصافرة الصاروخ تشعر بلهبها نحو النوافذ ونحو البيت، إنه الوقت ذاته الذي خرجنا فيه من خانيونس ليلة عض الموت حاجتنا للنوم المستجداة، إنها ذات الأنفاس التي تدور في رأسي مثل صوت طقطقة الحطب في موقد النار، الأصوات تتلاحق:
وين؟
مش معروف؟
اللهب من هناك، شمالاً
اللهب من هناك، جنوباً
اللهب ذاته هناك، شرقاً
والله ما حدا عارف!
هي ذاتها الدهشة التي تصنع منك جسداً متمرساً في مكانك لا تعرف وجهة الموت ولا وجهة النجاة، أنت فقط ترقب صوت الانفجار القادم والقريب.
الذاكرة ذاتها بدأت ترصّ خبراتها، تارة تظنّ أنه حزام ناري وهو أحد أساليب القصف المتعارف عليها غزياً وهي مجموعة من الصواريخ التي تضرب الأرض والمباني في عدة أماكن وبنفس الوقت بشكلٍ يُشبه حزام من نار يلف المنطقة بشكلٍ دائري فلا تعرف وجهة المنقذين والمسعفين طريقها، ولا يعرف الراكض من أين يأتي لهب النار والانفجار.
تارة أخرى تظن به حدث أمني، سبق لي تجربة هذا الصوت في رفح حين استطاع الاحتلال تحرير اثنين من رهائنه، وأسفر ذلك عن قتل أكثر من مائة فلسطيني. هو صوت يشبه صوت ذاك اليوم وتلك الحالة، ترقبنا، وخوفنا، وصوت أنفاسنا التي تلاحق الغارات والأعيرة النارية.
وتارة تفترض أنّها محاولة اغتيال لقيادي بارز فهذا الضرب والقصف الشديد يُشبه صباح السابع من أكتوبر ذاته، حيث الجميع يتكهن ويبحث في الأخبار عن مصدر هذه الانفجارات التي لا تتوقف فهي يبدو صيد ثمين يتعامل الاحتلال على هذا الأساس. فلم يكن يهمه مدنية المدنيين الآمنين في أيام رمضان عام 2021 إذ دمّر حي سكني كامل ليعترف بعدها أنها محاولة اغتيال، وتكررت التجربة ذاتها في مجازر متعددة خلال أيام الإبادة التي مازالت.
إنها يد الحرب الأكولة إذاً التي لا تتوقف عن التهام نومنا ومحاولة استقرار أحلامنا عن يوم خالٍ من الموت، عن يوم خال من التعب والقلق بشأن حاجة البيت للمئونة غير المتوفرة بالأسواق، والماء الذي صار أشد شحاً في أيام بدت فيها الحرارة ترتفع والصيف وحرارته بدأ يدق الأبواب بقوة. يد الحرب الأكولة التي تجاهلتها صباح يوم أمس أيّ السابع عشر من مارس حيث دعتني زوجة أخي إلى مشوار نحو السوق لشدة شعوري بالكآبة والإحباط الشديدين والذين اصارعمها منذ وقت منذ أن ظننت أنني أحاول الاستقرار بالعودة إلى مدينة غزة والحصول على بيت مستأجر كبديل للبيت الذي صار جثة. شعورا الإحباط والكآبة يسيطران منذ وقت وأنا أهشهما كما أهش الذباب في صباح تزور الحرارة النوافذ، وفي الليل أهش البعوض بنفس الطريقة.
نصحتني بمشوار نحو السوق فربما تنازل الشعورين عن هيمنتها هذه، استجبت لطلبها ومشيت معها حيث الاستعدادات الخجلة لعيد قد يأتي بحرب أو باستمرار هدنة، في شارع عمر المختار، وحي الرمال تحديداً كانت وجهتنا وقد مررنا بمحاولات الآليات البسيطة فتح الشوارع وإزالة الركام، وهي محاولة على بؤسها لكنها تعيد فسحة الأمل على ضيقها إلى النفس، في مشهد هزلي وقفنا أمام إحدى الجرافات المتعطلة وأمامها ركام فقلنا لبعضنا:
لقد انهارت الجرافة.. احتارت من أين ستبدأ!
ومضينا نحو السوق، فمحاولات غزة بالبقاء مازالت مستمرة، كذباً اضطراراً لكنها محاولات الناجي الوحيد خليط ومزيج من الأمل المُستجدى والإحباط المسيطر.
في السوق تظهر الألوان على قلّتها (أقصد ألوان الملابس) وسط هذا الركام، وكأنّها كومة ألوان غير مفهومة في لوحة كلها باللون الرمادي، لكنني على أية حال أحاول مثلما تحاول المدينة، ربما هي تنكر ما يحدث لحاجة المدينة بأن تبقي صوت الأولاد فيها فهذا دليل البقاء الأول والأساس، وأنا لا أعرف سرّ هذا الإنكار إذ أمضي في طريقي منذ وقت متجاهلة شعوريّ الإحباط والكآبة بذات الميكانيزم الدفاعي الذي قمت بتفعيله منذ أيام نزوحي في رفح، أنكر شكل الخيمة كبيت بديل، وأنكر أصوات الزحام ورائحة الغبار والرماد.
أقف وقتاً طويلاً أمام أحد المحال ذو الواجهة الزجاجية التي أعاقت الطلقات الرؤية بوضوح عبرها، لكن الألوان في المحل تبدو مبتسمة تنادي، هي محاولة تثني شعوريّ الإحباط والكآبة عن تملكهما روحي.
وكأنّ الحرب ويدها أقوى من محاولاتي تلك فعند الثانية فجر ليل الثامن عشر من مارس آذار أيّ بعد تعب من مشوار السوق وكأنّها تعاقبني على محاولتي هذه فضربت نومي وقتلت فرصتي بالتنازل عن الكآبة والإحباط
فأشعلت فتيلها قرب مكان نومي هذا وقتلت سكون الليل المستجدى لنوم كثيرين مطمئنين يحاولون في الصباح البحث عن سرّ البقاء الماء والطعام وملابس العيد.
لكنّها الحرب قتلت صوت وقت السحور الثامن عشر حيث ينتظر طفل أن ينتهي فيقترب موعد العيد، سمعت والده عند الرابعة فجراً أي بعد فشل محاولة انتشاله حياً، يقول:
مات علوش! وصوت كفيه يضرب صدري لا رأسه. فأعادّ لي هاجس يد الحرب الثقيلة التي تخطف كل محاولة على هشاشتها!.
موضوعات ذات صلّة:
أيتام الحرب: يزن، واحد من عشرات الآلاف
المدنيون يشعرون بالعزلة: لسنا مجرد خبر عاجل
الحرب في غزة