حالاتٌ نادرةٌ تلك التي تتخلى فيها المائدة الفلسطينية عن الزيتون. إذاً ليس بمقدورك عزيزي القارئ أن تسأل فلسطينياً هل تأكل الزيتون؟، لأن في ذلك تشكيك في أمر حتمي، لذا فإن صيغة السؤال يجب أن تكون على النحو التالي: هل أكلت زيتون اليوم؟
هذا يعني أن الزيتون هو طبق رئيسي ومفصلي على المائدة الفلسطينية، فهو رفيق الأكلات الشعبية كالعدس والملوخية والخبيزة وما إلى ذلك، إلى جانب أنه لصيق طبقي الدقة (خطة شعبية حارة)، والزعتر.
أما للزيت حكاية أخرى، حيث اعتادت العائلات على إغراق زبدية الفول الصباحية بالزيت فذلك طقس يومي لا غنى عنه حتى في زمن "البرستيج". فيما لا يستحسن أحد تناول منقوشة زعتر مثلاً مطهوة بزيت نباتي بديلاً عن زيت الزيتون، سيما الأسر الفقيرة، والتي غالبا ما تعتمد على شراء الزيت بكميات بسيطة – استخدام لوجبة واحدة-.
ودفع الفقر شركات إنتاج الزيت في قطاع غزة على استحداث فكرة بيع زيت الزيتون بالتجزئة بوزن لتر، أو بكميات أقلها أكياس معبئة زنة 18 جرام، بقيمة شيكل واحد. وفي ذلك دلالة على أن الفلسطينيين في غزة على وجه الخصوص، لا ينفكوا عن شراء الزيت مهما كان مكلفاً، حتى لو كان مجزأ.
وقد تبدو الأخبار المتواترة عبر نشرة الأخبار الإذاعية عن تراجع إنتاج الزيتون في قطاع غزة، أمر مقلق بالنسبة للحاجة سامية زايد التي بدأت بتحضير العُلب البلاستيكية الفارغة تمهيداً لاستخدامها فيما يعرف بعملية كبس الزيتون (أي تخزينه).
قالت سامية (59 عاماً) نسمع أن إنتاج الزيتون محدود هذا العام، ولكن ذلك لا يمنع من اقتناءه حتى لو زاد ثمنه.. من منا يستطيع أن يتخلى عن الزيتون!
مؤشرات السوق تفيد بتراجع كميات إنتاج الزيتون للعام الحالي، وعلى ضوء ذلك لجأ الزبائن إلى حجز كمياتهم سلفاً قبل عملية جني الثمار.
ويرجح الخبير الزراعي غسان القيشاوي، أن تكون نسبة إنتاج الزيتون لهذا الموسم ما بين 25 - 30% فقط؛ وذلك بسبب عوامل تغير المناخ، مشيرا إلى درجة الحرارة العالية كانت سببا رئيسيا وراء هذا التراجع في الإنتاج.
أمام هذه التوقعات، لجأ محمود أبو القمبز، إلى حجز كمية 60 كيلو جرام من الزيتون سلفاً من قبل أحد المزارعين شرق مدينة غزة. ويقدر أبو القمبز حجم الاستهلاك اليومي لأفراد أسرته المكونة من عشرة أفراد بمعدل 250 جرم يومياً. ويرى في ذلك فائدة كبرى للجسم، في حين يشكك بعض المواطنين فوائده الصحية، إذ يرى البعض في عملية تخزينه بإضافة الزيتون مضار صحية وإحدى مسببات الالتهابات.
ولا تجد الشابة أميرة محمد تفسيرا لهذا التعلق في تناول الزيتون، حيث تشير إلى أنه يشكل ميزة على السُفْرة على ضوء نكهته المالحة والتي تميل إلى المرار أحياناً.
تشارك أميرة وهي في العشرينات من عمرها، أفراد أسرتها في جني محصول الزيتون الذي يبدأ مع أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، إذ يزرع والدها نحو 500 متر مربع تقريبا بهذا النوع من الأشجار، ويتشارك جميع أبناءه في موسم القطف.
هذه الحفلة الجماعية إن تجاز تسميتها، تتطلب التحضير المسبق للسلالم الخشبية وللعصي وكذلك للأغطية البلاستيكية التي يجمع فوقها ثمرات الزيتون. تتولى أميرة عملية تسمى جد الزيتون، وذلك بالضرب بعصا على أغصان الأشجار المثقلة بالثمر فتتساقط مختلطة بالأوراق الجافة.
تتولى شقيقتها ووالدتها فرز الزيتون في أوعية بلاستيكية وأخرى معدنية، ويجري فرز الزيتون الأخضر عن الأسود، يلحق هذه العملية عملية فرز أخرى لفصل الثمرات المخصصة للعصر وتلك المخصصة للتخزين.
وتميل الشابة أميرة وهي حاصلة على بكالوريوس تمريض إلى تناول حبات الزيتون السوداء لقولها إنها غالبا ما تكون مشبعة بالزيت ولا تزيد نسبة الأحماض في المعدة مثلما يفعل الزيتون الأخضر اللون.
ويحفظ الزيتون بأربع طرق:
أولاً: المُعالجة بالمحلول الملحي لحفظها أطول مدّةٍ ممكنة.
ثانياً: تجفيف الزيتون بالملح فقط.
ثالثاً: صنع مخلل الزيتون.
رابعاً: تفريز الزيتون.
وبينما يمكث عشرات المزارعين في الأرض لجني الثمار، يمكث آخرون في معاصر الزيتون، المتفرقة في قطاع غزة، للحصول على الزيت.
ووسط ضجيج الآلات يتراص مواطنين جاؤوا محملين بالزيتون، على الكراسي داخل معصرة أبو اسكندر الحديثة، منتظرين الحصول على الزيت ذو اللون البراق والرائحة الجميلة التي تعبق المكان.
وتبدأ عملية عصر الزيتون، بدءً من تجميع كميات الزيتون في أحواض بلاستيكية يطلق عليها "مخالات"، ثم نقلها إلى آلة ترتفع مأتى سنتمتر عن الأرض، لتتساقط بعدها حبات الزيتون متتالية داخل ماكنة تعمل على تنقيته من المخلفات وأوراق الشجر.
ويشير الستيني عمر أبو اسكندر مالك المعصرة، بيده إلى سلم كهربائي يحمل الزيتون المنقى إلى آلة الغسل، والتي بدورها تعمل على رش الماء عليه ومن ثم نقله إلى آلة الطحن أوتوماتيكيا، ويقول: "من هنا تبدأ عملية العصر".
يدخل الزيتون إلى "الجاروشة" وهي آلة تعمل على تكسير حباته وطحنها، ومن ثم يتم ضخه عبر "التربين"، ويوضح أبو اسكندر أن هذه الماكنة عبارة عن مكبس ذو ثلاث أنابيب، تقوم بفصل مكونات الزيتون عن بعضها، فإحداهن تخرج الزيت والأخرى تخرج الماء والثالثة تخرج الجفت.
ويضيف أبو اسكندر "يخضع بعد ذلك الزيت إلى آلة تعمل على تصفيته، وتنتهي العملية بصنبور عند نهاية خط الإنتاج حيث ينتظر المزارعون، ويقوم بتعبئة زيت الزيتون نظيفا في جالونات أو صفائح حسب الرغبة للغذاء أو التسويق".
والزيتون يصنف إلى أنواع، لكن ليست جميعها صالحة للعصر، حيث يشير أبو اسكندر إلى أن الزيتون "السري" الأخضر يستخدم للتخزين، فيما أن الأسود منه و الـ"شملالي K18، يستخدمان في العصر لاستخراج الزيت.
وعلى الرغم من أن عملية عصر الزيتون آلية بحتة، لكن يشوبها بعض الغش أحياناً كما يقول تجار ومستهلكون على حدٍ سواء.
غير أن السبعيني أبو مروان، قال إن عملية التفريق بين الزيت المغشوش والصافي، تتكشف بعدة طرق، أيسرها وضع إضاءة أسفل كوب شفاف من الزيت، وإذا نفذ الضوء من السائل فمعنى ذلك أنه مغشوش.
وقال أبو مروان، إن بعض التجار يقومون بخلط الزيتون المخصص للعصر مع أنواع أخرى رديئة، الأمر الذي يفسد نكته، ويقلل من ثمنه.
ولا يعد من المبالغة القول إن الزيتون لا يدخل فقط في مكونات المائدة الفلسطينية، ولكنه حاضر أيضا في الفن والأدب الفلسطيني، ناهيك عن التراث الشعبي كالأهازيج الشعبية والأغاني التراثية.
ويفرد الشعراء والمغنون الشعبيون مساحات كبيرة للتغني بموسم الزيتون، وللحُب والغزل بين الصبايا والشبان في السنوات السابقة، واحدة من تلك الأغاني كانت:
طلعت ع الزيتونة تقطف ثمرتها شلحت المنديل وبينت غرتها
والله هالحلوة لآجي حارتها وأخطبها من أبوها أسرع ما يكونا
فيما يحاول الفنانون الفلسطينيون ومنهم رائد قطناني التجسيد من خلال الفن شجرة الزيتون، كواحدة من الشواهد على أحقية الشعب الفلسطيني بهذه الأرض، كما يقول.
وأسقط القطناني أوراق الزيتون في عديد من اللوحات، كتلك التي تتحدث عن يوم الأرض، وذكرى الانتفاضة والأحداث الأخرى التي تتشبع بها الذاكرة الوطنية.من هنا يتبين أن المسألة تبدو أكثر مكن كونها مجرد ثمرة. إنها رمز وطني.