أسماء الداية- ايمان صافي-ندى عزام
"ابتسم.. ابتسم أكثر للكاميرا" تلك ربما أكثر جملة استهلاكية تستخدمها جمعيات ومؤسسات خيرية تعمل في قطاع غزة، أثناء توثيق مشاريعها الإغاثية، في محاولة منها لإجبار الفقراء والمعوزين على التصوير أثناء تلقي المعونة.
يضطر المحتاجون أحيانا للعمل كممثلين أمام الكاميرا، بمعنى آخر تجبرهم جمعيات على تصنع الفرحة بالحصول على المساعدة، وهذا السيناريو المبتذل ضحاياه هم الأسرة المعوزة المتعففة من أسر قطاع غزة التي تعاني جرّاء الحصار المفروض للعام الرابع عشر على التوالي من دون وجود أفق اقتصادي قادر على تجاوز محنة الفقر التي تخطت نسبتها مؤخراً حاجز الـ 70%.
غير صريح
وتستمر حالة انتهاك كرامة الفقراء في ظل عدم وجود نص قانوني صريح يجرم هذا الفعل، رغم ما جاء في القانون الأساسي الفلسطيني وتحديدا في البند الأول من مادة (10): حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام. تعمل السلطة الوطنية الفلسطينية دون إبطاء على الانضمام إلى الإعلانات والمواثيق الإقليمية والدولية التي تحمي حقوق الإنسان.
كما نص كذلك في المادة (32): كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر.
يترافق هذا النص العام، مع وجود قرار حكومي صادر عن وزارة الداخلية في قطاع غزة عام 2019 يقضي بمنع تصوير المحتاجين اثناء تلقيهم المساعدات الانسانية. فيما تبنت وزارة التنمية الاجتماعية بغزة أيضا هذا القرار والذي نص على: "اقرت وزارة التنمية الاجتماعية لكافة المؤسسات المحلية فيما يخص التغطية المحلية المتعلقة بالمساعدات، وقررت منع تصوير المستفيدين اثناء توزيع المساعدات بشكل نهائي، مع السماح بتصوير عملية اعداد التجهيز والتصوير".
ومع ذلك، تواصل جمعيات خيرية انتهاك الكرامة الإنسانية الخاصة بالفقراء والمحتاجين في القطاع، حيث قام فريق التحقيق بجمع عدد من الصور التي جرى نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجمعيات قامت بالتقاط صور مباشرة للمحتاجين تظهر ملامحهم بشكل واضح خلال العام الأخير على الأقل.
(ع . ر) هي سيدة معيلة لستة أفراد في ظل عجز زوجها الذي أصابه الشلل واقعده عن العمل، تقبع في منزل يفتقر لأدنى مقومات الحياة، وقد اضطرها وضعها المعيشي المتأزم لطلب المساعدات من الجمعيات الخيرية، وبعد التأكُد من بؤس حالتها تلقت بضع مساعدات إنسانية ولكنها ما لبثت أن واجهت عائقاً كبيراً، تمثل في محاولة الجمعية أقناعها بضرورة التقاط صور لها ولأسرتها أثناء تلقي المساعدة بهدف شكر الجهة المانحة وتوثيق انجاز المؤسسة، وأن الصورة ليست بهدف النشر، فوافقت السيدة مرغمة لتفاجئ فيما بعد بحالة من التنمر من قبل جاراتها بفعل نشر صورتها وأسرتها خلال استلام المساعدة. وقالت: "هذه الصورة كسرت نفسي".
16 ألف نسمة
وهذه ليست الحالة الوحيدة في مجتمع يعيش أكثر من نصف سكانه، الذين يبلغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، على المساعدات الإنسانية التي تقدمها المؤسسات الدولية الإغاثية، إلى جانب المؤسسات الخيرية المحلية.
وطبقا للإحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء، فإن عدد المؤسسات الخيرية العاملة في القطاع، يزيد عن 1600 جمعية، منها أكثر من 140 جمعية أجنبية موزعة على مختلف محافظات غزة.
وواحدة من محددات توزيع المساعدات على المستفيدين الواردة في دليل منع الفساد في المساعدات الإنسانية، الصادر عن ائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) ضرورة الانتباه إلى المظاهر الشكلية الخارجية كمكان سكن المستفيدين أو الظهور بحسن الهندام.
إضافة إلى ضرورة تجنب استخدام عبارات أو كلمات من شأنها الحط من كرامة الإنسان أو تخويفه عند تسليم المساعدات.
ويرى الاخصائي النفسي الدكتور اسماعيل أبو ركاب، في لجوء المؤسسات الخيرية لتصوير المحتاجين في حالة الضعف والعجز، بأن من شأنه أن يولد لديهم ما يسمى بـ"سيكولوجية المتسول" والتي تولد لديهم مشاعر سلبية طويلة الأمد.
وقال أبو ركاب: "تصوير المحتاج بهذه الطريقة يولد لديه مشاعر سلبية إزاء الجهة التي أساءت إلى كرامته، وإنسانيته، خصوصاً أن حدة الأذى النفسي ترتفع لدى العائلات التي انتقلت من مستوى اقتصادي مرتفع الى مستوى اقتصادي متدني".
وأضاف أبو ركاب: "الأمر الأكثر سوءاً في ذلك هو ما يتسبب فيه نشر صور بعض المحتاجين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي قد يتسبب لهم باكتئاب وتوتر وخصوصا حينما يعلم بأمرها الجيران والمحيطين ويستخدمون تلك الصور للتنمر عليهم، حيث أن ذلك يشعرهم بتدني النفس والمكانة، ويؤدي إلى الرغبة في الانعزال عن العالم المحيط".
وأوضح أنه يجب أن يكون الهدف من وراء نشر المساعدات هو تمكين المحتاجين، لا النيل من سمعتهم والتشهير بهم.
حنان (اسم مستعار) هي سيدة تقيم في شقة أشبه بصندوق اسمنتي، بالكاد تتسلل إليه أشعة الشمس، تشرح أزمتها مع التوثيق الإعلامي قائلة: "ألم يكفنا ضعفنا وندرة سد احتياجاتنا الأساسية، يريدون أيضاً سلبنا كرامتنا والتشهير بسوء وضعنا".
وأضافت حنان: إحدى الجمعيات ساومتني فإما التصوير أو الحرمان من المساعدة، ولكني رفضت التصوير قطعا رغم حاجتي، مشيرة إلى أنه لم يعد لديها ثقة في عمل الجمعيات وذلك على أثر مطالبتها من إحدى الجمعيات بالتقاط صورة جماعية لأسرتها من أجل القيام بترميم مسكنهم، لكنها فوجئت بانتشار الصورة والتي تجمعها بزوجها وهو مريض سرطان الكبد وأفراد أسرتها وعددهم أحد عشر فرداً جلهم من الإناث.
واوضحت أن فتياتها أصبحن محل سخرية واستهزاء من قبل السكان المجاورين، مؤكدة أنه كان لذلك أثرا سلبيا عميقا داخل كل من أفراد أسرتها.
ضعف رقابي
ويبدو واضحاً أن القرار الحكومي بمنع التصوير يتخلله ضعف رقابي، رغم أن وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة تقول إنها تحاول جاهدة تطبيقه.
وأوضح المفوض العام لوزارة التنمية لؤي المدهون أن وزارته مهتمة جدا بالقرار وتبحث سبل تطبيقه ضمن أوسع نطاق، وأنهم بصدد المحاسبة القانونية لأي جمعية تنتهك هذا القرار الذي يصون الكرامة الانسانية المكفولة في القانون الفلسطيني والمواثيق الدولية.
وأقر المدهون بوجود تجاوز من بعض الجمعيات الخيرية، وعزا ذلك إلى ما اسماه "خطأ في عمليات التوثيق وليس الهدف من التجاوزات استعراض سوء الوضع الاقتصادي للمحتاجين واهانتهم" كما قال.
وأضاف انهم لم يستقبلوا أي شكاوى على صعيد المؤسسات والأفراد بهذا الشأن علماً أن هناك إدارة كاملة مختصة بالشكاوى المتعلقة بالجمعيات، مشيراً إلى أن هناك سلسلة من العقوبات التي تتخذ بحق المخالفين، تتمثل بداية في الإنذار للجمعيات المخالفة، وإذا لم تستجب أو تتراجع يتم فض الشراكة بينها وبين الوزارة، عوضاً عن الإجراءات الفنية والادارية التي تُتخذ بحقها.
وأشار أن الوزارة بحاجة ماسة لمدونة سلوك تضبط عمل الجمعيات خصوصاً أن هناك جمعيات خاصة لا تقع تحت وصايتهم.
تبين في سياق التحقيق أن الجمعيات الخيرية المحلية، تعاني ضعفا في التمويل بما لا يتناسب مع الاحتياجات المتزايدة للمواطنين في قطاع غزة، ولعل هذا كان مبرر بعض الجمعيات في محاولة استقطاب الممولين من خلال صور تبرز حجم الاحتياج، علما أن ذلك ليس بالضرورة أن يكون المبرر مقبول.
مساعدة المحتاجين!
مدير جمعية المستقبل للصم أدهم عيد، أوضح خلال لقاء مع فريق التحقيق أن المحافظة على الكرامة الانسانية أمر حتمي وغير قابل للجدال بالنسبة لهم، مشيرا إلى أن جمعيته تحاول بشكل حثيث مساعدة المحتاجين بما يتوفر لديها من امكانيات، رغم المعيقات والصعوبات التي تواجههم اثناء عملية توزيع المساعدات.
وفيما يتعلق بنشر جمعيته صورا في العشرين من يوليو الماضي للمستفيدين، تظهر خلالها ملامحهم بشكل جلي، علل ذلك بأن المستفيدين التقطت لهم الصور بإرادتهم.
في المقابل، أكد نمر الشنشير ممثل جمعية السلامة الخيرية في جنوب قطاع غزة، وهي جمعية مختصة بذوي الاحتياجات الخاصة من جرحى ومصابين، على التزامهم بقرار منع التصوير الصادر عن وزارتي الداخلية والتنمية، مبينا في الوقت ذاته أنه يتوجب عليهم التصوير كإجراء اداري للجهات المانحة لإثبات تنفيذ المشروع.
وقال الشنشير: "الصور المنتشرة للمحتاجين المصابين كانت بإذن كتابي منهم، وتم النشر بعد موافقتهم لتسليط الضوء على حاجتهم"، مضيفاً أن جمعيته تعاني نقصًا من تمويل العمليات الجراحية والمستلزمات الطبية للفئات الآنفة، "وفي بعض الاحيان يتم نشر صور للمحتاجين المصابين لإظهار مهارات معينة لديهم بغية تحفيزهم" على حسب قوله.
انتهاكا صريحاً
ورغم ما لهذا الانتهاك من أثر نفسي، إلا أن نائب مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان لقطاع غزة، جميل سرحان يقر بعدم وجود عقوبة واضحة بالقانون تجرم أي فعل من شأنه الحط من كرامة المحتاج، وبين أن تصوير المحتاجين من قبل الجمعيات يعد انتهاكا صريحا لخصوصيتهم وتعدي على حرياتهم الشخصية.
وأضاف سرحان أن قرار منع التصوير الصادر عن الداخلية أصبح ملزم لجميع الجمعيات ومخالفته هي بمثابة مخالفة للأوامر المشروعة. وأكد أن الوضع الاقتصادي المذري أجبر المحتاجين على طلب المساعدات الإنسانية، مشيرا إلى أن "ذلك لا يهدف إلى إضفاء صبغة التسول على الشعب الفلسطيني، إنما نتيجة للظروف القاهرة التي أجبرت ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني طرق أبواب المؤسسات الخيرية" كما قال.
ونشر على موقع الإدارة العامة للشؤون العامة والمنظمات الغير حكومية بوزارة الداخلية والأمن الوطني، توضيحا فيما يخص تصوير ونشر صور المستفيدين: جاء فيه يجب عدم نشر صور المستفيدين من خدمات الجمعيات الخيرية والهيئات الاهلية بما يدلل على شخصياتهم ويحدد ذواتهم، وعدم ربط المساعدات بشرط التصوير.
ويوضح أكرم أبو عاصي مدير دائرة التدقيق والرقابة في وزارة الداخلية بغزة، أن الهدف من اصدار قرار منع تصوير المحتاجين جاء تنفيذا لرغبتهم خصوصا أنهم الشريحة الأكثر في المجتمع، وهذا مؤشر رئيسي لانحطاط المستوى الاقتصادي الذي ساهم في انتشار الجمعيات الاغاثية البالغ عددها ما يزيد عن ٩٨٠ جمعية.
وأكد ابو عاصي أن قرار منع التصوير لا يمكن أن يكون بالمطلق، حيث تواجد ضروريات تقتضي نشر الصورة بما يصب في مصلحة المؤسسة لكسب التمويل الذي يستفيد منه المحتاجين، كما قال.
وفي سؤالنا له عن الجمعيات التي خالفت القرار ونشرت صورا لمستفيدين أجاب ابو عاصي: "عدد الجمعيات المخالفة قليل، يكاد لا يذكر، ولا ضير في نشر صور تترجم لحظات الفرح التي يشعر بها المحتاجين اثناء تلقي المساعدات".
وأشار إلى عدم وجود قانون يجرم التصوير، "إنما هي اجراءات قانونية تتخذ ضد المخالفين من خلال النيابة العامة ومجلس القضاء وتتدرج حدتها حسب حجم الانتهاك الذي ترتكبه الجمعية الخيرية بعد تقديم شكوى مخالفة اوامر مشروعة ضدها".
وفي ضوء عملهم الرقابي أشار ابو عاصي، إلى أنهم تلقوا شكاوى من المواطنين أثر انتشار صور لهم خلال تلقي المساعدة، "ولكن الفعل يكون فرديا بهدف الاستعطاف، و يقوم به أحد العاملين في مجال الاعلام، ولا يكون تحت مظلة مؤسساتية".
ودعا أبو عاصي بضرورة تضافر عدة جهود للتعاون مع وزارة الداخلية، وعرج على الدور المهم لوزارة الاعلام للحد من ظاهرة انتشار صور المحتاجين بصورة مهينة لكرامتهم، والمساهمة في اظهار الشعب الفلسطيني بصورة كريمة تليق به.
هذه المادة نشرت بالتعاون مع مؤسسة بيت الصحافة.