لا تنسجم ظروف حياة المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة مع توقعات نتائج مباحثات التهدئة التي أعقبت الحرب الأخيرة على غزة (أيار/مايو 2021) وأسفرت عن خسائر بقيمة نصف مليار دولار، والتي كان يؤمَل منها أن تفضي إلى تخفيف الحصار عن القطاع.
فعلياً، تعكس التفاصيل المعيشية للسكان، والمتعلقة بتوقف عجلة الحياة في ظل حجب الاحتلال الكثير من السلع الأساسية، محاولة إسرائيل معاقبة غزة باعتماد سياسة العصا والجزرة. فكلما استقر الوضع الأمني، كلما سمحت بتدفّق البضائع عبر معبر كرم أبو سالم، وهو المعبر التجاري الوحيد بين إسرائيل وغزة.
وبات من الملاحظ تعطُّل الكثير من الأنشطة الاقتصادية داخل القطاع، وخصوصاً قطاع الصناعات والإنشاءات، ولا سيما في ظل حجب إدخال الأسمنت ومواد البناء، وهو ما يعيد القطاع إلى مربع الحصار الأول سنة 2007.
وعمدت إسرائيل مؤخراً إلى اعتماد قائمة بالسلع المسموح بها، وهي في مجملها سلع ثانوية، بينما تُبقي الأساسية والمواد الخام المستخدمة في الصناعات على قائمة الحظر، وهو ما يعطل عمل الكثير من الشركات والورش، ويضاعف حدة الحاجة داخل القطاع، ويزيد مستوى الفقر والبطالة.
التعنت الإسرائيلي في مباحثات التهدئة مع حركة "حماس"، والمستمرة عبر الوسيط المصري منذ أكثر من شهر ونصف، لا يزال يلقي بظلال سلبية على قطاعات الإسكان والبنية التحتية، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، بحسب رئيس اللجنة العليا الحكومية لإعمار غزة ناجي سرحان.
تنسجم تصريحات سرحان، التي دعا فيها إلى ضرورة دعم الاستجابة الإغاثية السريعة لقطاع غزة، مع تقرير صادر عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، الذين أكدوا فيه أن العدوان الأخير على قطاع غزة أضعفَ اقتصاد القطاع إلى أبعد الحدود، مطالبين بضمان دخول المساعدات.
وأوضح التقرير، أن 11 يوماً من العدوان الإسرائيلي أضعفت اقتصاد غزة، لافتاً إلى أن أضرار العدوان تتراوح بين 290 و380 مليون دولار.
وفي ظل غياب فرص الإعمار وتحسين سبل العيش طرأ ارتفاع غير مسبوق على الأسعار، وهو أمر اشتكى منه مواطنون، وأكده مسؤولون حكوميون في غزة.
وكشف مدير دائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد في غزة عبد الفتاح أبو موسى وجود استغلال لحالة إغلاق المعابر وشح المواد من بعض التجار، معتبراً ذلك جريمة تجري متابعتها قانونياً. وأوضح في الوقت نفسه أن مصانع كثيرة أوقفت عملها وسرّحت عمالها بسبب عدم توفُّر المواد الخام.
وفعلاً اضطر أصحاب عشرات المصانع والمنشآت الاقتصادية في قطاع غزة إلى إغلاق منشآتهم، أو تقليص خطوط الإنتاج تكيفاً مع أزمة إغلاق المعابر والحد من تدفق المواد الخام.
وكان مصنع بيبسي في مقدمة تلك المصانع التي تعطلت عجلة إنتاجها؛ وقال همام اليازجي مدير إدارة التطوير في شركة مجموعة اليازجي إن إسرائيل تسمح بدخول المواد المصنّعة والجاهزة وليس المواد الخام، مؤكداً أن الإجراءات الإسرائيلية على المعابر تمنع دخول مركّبات مثل ثاني أوكسيد الكربون، بالإضافة الى المواد الأساسية في التصنيع، الأمر الذي اضطر شركته إلى تسريح 250 عاملاً وموظفاً يعملون في المصنع.
ووفقاً لقول رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال في غزة سامي العمصي، أُغلق 500 مصنع من أصل ألفين بسبب الحصار والحروب الإسرائيلية، وباتت هذه المصانع تشغل حالياً نحو 21 ألف عامل، مبيناً أن إغلاق المعابر أدى إلى تعطُّل وتضرُّر قطاعات حيوية كقطاع الإنشاءات والصناعات المعدنية والغزل والنسيج والمطابع، وكذلك قطاع النقل العام الذي يشغل نحو 100 ألف عامل.
هذا الواقع يناقض ما ادعاه الاحتلال الإسرائيلي أنه قدم تسهيلات لقطاع غزة، بينها توسيع مساحة الصيد البحري من 9 إلى 12 ميلاً بحرياً، غير أن هذه التسهيلات تبدو شكلية إلى حد كبير، ولا تؤثر في كون غزة تجثم الآن على أعتاب كارثة إنسانية، وخصوصاً في ظل استمرار أزمة شح البضائع والارتفاع في أسعار بعض السلع، والتي تشهدها أسواق القطاع.
بموازاة ذلك، تنادي آلاف الأسر الفقيرة في قطاع غزة بضرورة الإسراع في تقديم المساعدات الإغاثية، وخاصة تلك المتعلقة بما يُعرف بالمنحة "القطرية" التي تحجبها إسرائيل كأحد أشكال عقاب غزة، وتقدَّر بـ30 مليون دولار شهرياً تُصرَف على الأسر الفقيرة، وعلى شراء وقود لمحطة الكهرباء الوحيدة، وعلى رواتب موظفي القطاع.
المتحدثة باسم وزارة التنمية الاجتماعية في غزة عزيزة الكحلوت قالت إن 100 ألف أسرة من الأشد فقراً تستفيد من مخصصات المنحة القطرية، بينما تقف 45 ألف أسرة على قوائم الانتظار. وأضافت في تصريح صحافي أن هذه الأُسر تمر في الوقت الحالي بمرحلة صعبة وخطِرة بسبب تأخّر أموال المنحة التي تعتمد عليها بصورة أساسية لتوفير حاجاتها الحياتية الضرورية.
يتزامن حجب المنحة التي تعرقلها إسرائيل لأنها، بحسب قولها، تذهب لدعم "حماس" ، مع عدم وجود بوادر لصرف شيكات الشؤون الاجتماعية التي تقدمها الحكومة الفلسطينية عبر وزارة التنمية الاجتماعية لمصلحة الأُسر المعوزة، وبصورة خاصة مع اقتراب عيد الأضحى، الأمر الذي يزيد من تردي الأوضاع المعيشية لتلك الأُسر.
إلى جانب ذلك، تعيق القيود التي تفرضها إسرائيل استكمال مخططات العشرات من الشباب لإنشاء أو تأهيل وحدات سكنية توطئة لمشاريع زواج، وخصوصاً في ظل الارتفاع الباهظ في أسعار مواد البناء، كالحديد والأخشاب والزجاج وغيرها من السلع الضرورية لقطاع الإنشاءات.
وليس واضحاً ما إذا كانت المباحثات التي تقودها القاهرة بين الطرفين ("حماس" وإسرائيل) منذ انتهاء العدوان على غزة في العشرين من أيار/مايو الماضي ستشهد تطورات إيجابية، وخصوصاً أن الاحتلال يحاول من خلالها ربط السماح بتحسين الوضع الإنساني في غزة بإبرام صفقة تبادُل أسرى.
غير أن الحديث يدور عن اقتراب تنفيذ المرحلة الأولى من تلك الصفقة المتمثلة في تقديم معلومات عن مصير الجنود الإسرائيليين في مقابل إطلاق سراح الأسيرات في سجون الاحتلال. بينما من الواضح أن "حماس" ترفض ربط ملف الإعمار وتحسين فرص العيش في غزة بمصير ملف الأسرى.
وإلى حين حدوث تطور إيجابي في الملف الأمني، سيبقى سكان القطاع يئنّون تحت وطأة الحصار الإسرائيلي الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر 80%، وضاعف نسبة البطالة إلى أكثر من 60%، وزاد الوضع الإنساني سوءاً.