"نساء خيام غزة: معاناة تحت وطأة الحرب والبرد

"نساء خيام غزة: معاناة تحت وطأة الحرب والبرد

أمام خيمةٍ مُهترئة في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، تجلس سلوى خليل (*) كرسي متحرك، تحاول بشدة سحب غطاء بلاستيكي لتثبته فوق خيمتها التي لا تصمد أمام الرياح العاتية. تقول وهي تمسح دموعها: "كنت أعيش في منزل دافئ، محاطة بعائلتي ووسائل الراحة، أما الآن، فالسرطان ينهش جسدي والبرد يقتلني ببطء".

سلوى، التي تعاني من سرطان الثدي، اضطرت إلى مغادرة منزلها في شمال قطاع غزة تحت تهديد السلاح والقصف المتواصل، تكمل حديثها: "خرجت على كرسي متحرك متهالك، ومعي أطفالي الستة، دون أن أتمكن من اصطحاب شيء من الدثار أو الفراش، وها أنا اليوم أعيش وأسرتي في هذه الخيمة التي لا تصد المطر ولا تحمينا من الصقيع".

سلوى ليست الوحيدة التي تعاني من هذه الظروف المأساوية، في شتاء قاسٍ بلغت درجات الحرارة فيه 6 درجات مئوية، حيث تُحاصر النساء النازحات تحديات يومية تفوق الوصف. وبحسب تقرير صادر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فقد نزح أكثر من مليوني شخص، أي نحو 90% من سكان غزة، نتيجة القصف الإسرائيلي المستمر، يعيش معظمهم الآن في ظروف غير إنسانية.

الموت والأمراض

وأصبحت حياة السكان بما فيهم النساء، مهددة بمخاطر متزايدة، تتراوح بين الموت نتيجة البرد القارس وتفشي الأمراض المعدية التي تعمّق أزماتهم الإنسانية، علاوة على القصف المستمر الذي يطال أيضا مخيمات النزوح. وقد أسفر الشتاء حتى الآن عن وفاة 8 أشخاص جلهم من الأطفال، وفق تقارير وزارة الصحة بغزة.

مع تدهور البنية التحتية نتيجة الهجمات العسكرية الإسرائيلية، تفاقمت الأوضاع الصحية في غزة بشكل كارثي. تقول سماح سالم، أم لطفلين: "هذا هو الشتاء الثاني الذي أعيشه في الخيام، أطفالي يرتجفون من البرد، ولا أستطيع توفير أغطية كافية لهم. إذا مرضوا، لن أستطيع شراء الدواء، فكل شيء أصبح باهظ الثمن".

سماح، التي فقدت منزلها وزوجها، تواجه ظروفاً لا تطاق. تعطي أطفالها القليل مما تبقى من الأغطية، بينما تعاني من الإنفلونزا المزمنة وآلام الحلق بسبب استخدام الماء البارد لغسل الأطباق والملابس.

وعلى المستوى الصحي، تظهر الإحصاءات أن 23 مستشفى من أصل 38 خرجت عن الخدمة فضلا عن تعطل نحو 90 مركزا صحياً، مما أدى إلى نقص حاد في الخدمات الطبية المقدمة إلى النساء الحوامل والمرضعات، اللواتي يمثلن شريحة كبيرة من المتضررات. يشرح الطبيب عبد الحكيم شحادة، استشاري أمراض النساء والتوليد، إلى أن "البرد يزيد من مضاعفات الحمل والولادة، خاصة مع غياب الأدوية الأساسية".

عدا عن ذلك، يشير شحادة إلى نقص التغذية الناتج عن شح الطعام والمساعدات الإغاثية، يزيد من مخاطر الإجهاض لدى فئة كبيرة من النساء الحوامل، واللواتي يعشن ظروفاً إنسانية قاهرة. 

أعباء مجتمعية

 على الرغم من القصف والدمار، تجد النساء أنفسهن محاصرات أيضاً بتقاليد مجتمعية تضاعف من الأعباء الملقاة على عاتقهن. تقول عبير عدوان، أم لخمسة أطفال وتقيم في خيمة نزوح جنوب قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر: "أعتني بأطفالي ووالديّ المسنين، أغسل الملابس وأطبخ الطعام على نار الحطب. حتى في النزوح، تظل المرأة مسؤولة عن كل شيء".

في خيمة أخرى على أطراف مدينة رفح، جلست نور عبد اللطيف، وهي أم لثلاثة أطفال، تراقب أطفالها يرتجفون من البرد. تقول وهي تمسح الدموع التي تجمدت على وجنتيها: "كل ليلة أخاف أن أفقد أحد أطفالي من البرد، لا أستطيع النوم لأنني أقضي الليل أراقب أنفاسهم".

يعلق الاخصائي الاجتماعي عطا سليمان على هذا الواقع بالقول: "في مجتمع محافظ كغزة، تُعتبر المرأة الحامي الرئيسي للأسرة. يُلقى على عاتقها دور مزدوج؛ فهي مسؤولة عن رعاية الأطفال وكبار السن في وقت تعاني فيه هي نفسها من التهميش والتجاهل".

وأضاف سليمان، أن ظروف الحرب القاهرة لم تعط المرأة في قطاع غزة مساحتها الكافية من الخصوصية أو الاستقلالية، نظراً لاعتماد الأسر على الأم بوصفها مصدر الأمان للأطفال، الأمر الذي يزيد من الضغط النفسي الملقى على عاتقها.

يتقاطع قول أخصائي علم النفس، محمد مهنا، مع ما قاله سابقه، حيث يشير إلى أن النساء النازحات يعانين من اضطرابات نفسية حادة على ضوء المعاناة التي يكابدها.  ويقول: "تكرار القصف والحرمان من أبسط الحقوق يزيد من معدلات الاكتئاب والقلق لدى النساء، فهن يتعاملن مع خسائر متراكمة، من الفقدان سواء أقرباء من الدرجة الأولى، أو المسكن أو العمل، فضلا عن الإحساس بالذنب بسبب عجزهن عن حماية أسرهن وأطفالهن".

الأعباء الاقتصادية

في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع الأساسية، تجد النساء أنفسهن مضطرات للقيام بأعمال شاقة لضمان بقاء عائلاتهن. عبير أحمد، أم لطفلين، تقول: "الغطاء الواحد يُباع بـ50 دولارًا، وهو مبلغ لا يمكنني تحمله بعد أن فقد زوجي عمله بسبب الحرب".

وتعرضت عبير "لكسرة النفس" كما وصفتها، حيث اضطرت للبحث بين بيوت الأقارب عن أغطية لتدثر أطفالها من البرد القارس الذي ينخر عظامهم ليلاً، وردت خائبة بدون نتيجة بعد أن أوصد الجميع أبوابهم في وجهها. 

وكانت تعتمد العائلات في غزة على الكهرباء أو الغاز أو الوقود لتدفئة منازلها، ولكن مع انقطاع الكهرباء ونقص الوقود الحاد بسبب الحصار الإسرائيلي المتزامن مع الحرب التي دخلت شهرها الـ15، يضطر النازحون إلى استخدام وسائل بدائية مثل إشعال الحطب والتي تحمل مخاطر كبيرة، وتكلفة مادية كبيرة، إذ يبلغ ثمن الكيلو من الخشب (4 شواكل).

في المقابل، قالت سمر أبو علي (29 عاماً) وهي أرملة وأم لثلاثة أطفال، إنها تضطر لبيع المساعدات لأجل شراء الحليب لطفلتها، ومع ذلك لا تغطي قيمة المساعدات احتياجات أخرى كأسعار الحفاظات والعلاجات اللازمة لتحسين نمو الطفلة التي تعاني نقصا حادا في التغذية وبحاجة ماسة إلى فيتامينات. 

يوضح الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، أن "الحصار الإسرائيلي المحكم للقطاع والدمار الهائل للبنية التحتية جعل النساء يتحملن أعباء اقتصادية إضافية، فهن الآن يقدن المعركة اليومية لتأمين الطعام والدفء لأطفالهن".

وذكر إسماعيل، إن بلغ البطالة إلى مستوى 80% خلال العام الأخير، يؤكد أن التدهور الاقتصادي بلغ أشده، وأن النساء يدفعن ثمناً باهظا نتيجة هذا التدهور، لاسيما أولئك اللواتي يعلن أسر ويعملن بالمياومة وفقدن مصادر دخلهن منذ الشهر الأول للحرب.

وشدد على أهمية أن تعمل المؤسسات الإنسانية والإغاثية المحلية والمنظمات الدولية، على توسيع نطاق تدخلاتها وزيادة تدفق المساعدات للأسر التي ترعاها النساء، لاسيما أولئك اللواتي يفتقدن إلى مصادر الدخل، لأجل مساعدتهن على تحسين ظروف حياتهن تحت الحرب.  

القانون والصمت

على ضوء هذا الواقع الذي يتنافى مع القوانين الدولية، أكد المحامي بلال البكري أن منع الاحتلال الإسرائيلي للنازحين من الحصول على الإمدادات الإنسانية، ينتهك القوانين الدولية. وقال: "بحسب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر العقاب الجماعي، بينما يمنح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق في السكن والحياة الكريمة، ولكن ما يحدث في غزة يُعد انتهاكًا صارخًا لهذه الحقوق".

وأضاف البكري: "المجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وإجبار إسرائيل على فتح المعابر والسماح بإدخال الإمدادات الإنسانية".

ومن الواضح أن الظروف التي تواجهها النساء النازحات ليست مجرد قضية إنسانية، بل اختبار لمدى التزام العالم بالمبادئ التي نصّت عليها المواثيق الدولية. تحت وطأة القصف والبرد، تُكتب قصص النساء في غزة بدموعهن وصمودهن، قصص تحمل في طياتها نداءً للعالم: ليتحركوا لإنهاء هذه المعاناة، وليضمنوا لهن حقهن في حياة كريمة.

  

موضوعات ذات صلة:

إليكم بعض أشكال الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة في غزة

 

صدمات مُناخية تُواجهها النساء في خيامِ النزوح

 

غزة: لماذا أُجبرت نساء على قص شعرهن ؟

نساء غزة.. احتياجات يومية تضاعف معاناتهن

نساء غزة يعشن ظروفاً لا تطاق ويعانين فقدان الخصوصية