في ظلّ الحروب المستمرة التي يواجهها قطاع غزة، يُعتبر الحفاظ على التفاؤل أمرًا بالغ الأهمية في مواجهة الواقع المرير الذي يعيشه سكانه.
تتزايد المعاناة اليومية من فقدان الأرواح، والمنازل، والموارد، بالإضافة إلى تحمُّل مشقات الحياة في بيئة منعدمة الإمكانات، وتحت ظروف النزوح وعدم الاستقرار، وشُح الموارد الأساسية، وتغيُّر نمط الحياة إلى البدائي؛ ما يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية لدى العديد من الأشخاص، ويخلق شعورًا بالانفصال عن كل ما كان يمثل جزءًا من حياتهم الطبيعية.
على الرغم من هذا، يبقى التفاؤل أحد الأسلحة التي تساهم في الحفاظ على الأمل والصمود وسط الحرب. في هذا التقرير، نستعرض تأثير الحرب على الصحة النفسية لسكان غزة، ونقدم رؤى حول كيفية الحفاظ على التفاؤل وتطوير القوة النفسية في مثل هذه الظروف.
تُظهِر الإحصاءات المحليّة، كارثية تأثيرات ظروف الحرب على صحة السكان، إذ أشارت إلى أنّ ثلثي قطاع غزة يُعاني من الاكتئاب والضغط النفسي، وأنّ أكثر من 600,000 طفل في قطاع غزة يعانون من صدمات نفسية حادة، فيما حذرت الخبيرة الأممية تلالنغ موفوانغ في أبريل 2024 من تداعيات تدهور الصحة النفسية في قطاع غزة، مشيرة إلى أن الألم النفسي الحادّ قد يتحول إلى رهاب واضطرابات نفسية أخرى في المستقبل.
"عندما نتحدث عن الاكتئاب الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة لا يمكننا التطرق اليه بحسب معناه التقليدي المقبول" يقول حسن زيادة، أخصائي نفسي في برنامج غزة للصحة النفسية، يردف: "الاكتئاب الفلسطيني مختلف. يعيش المجتمع في غزة حالة صدمة وإرهاقٍ متواصلة، الشعور السائد بين سكان قطاع غزة هو العجز وانعدام الأمل".
يضيف: "في بيئة مليئة بالدمار والنزوح المستمر، يصبح الحفاظ على الأمل أمرًا صعبًا، لكن من خلال تقنيات الدعم الاجتماعي والصبر، يمكن للأفراد إيجاد القوة في وسط الخراب."
أمام هذا الواقع، يحتاج السكان إلى محاولة الحفاظ على صحة نفسية متوازنة قدر الإمكان، فيما يصبح التفاؤل أداة للبقاء على قيد الحياة في الأوقات الأكثر صعوبة، وتحديدًا في سياق الحرب، إذ يمكن للتفاؤل أن يشكل نقطة ضوء وسط الظلام، ويساعد في تقليل التأثيرات السلبية للحرب على الصحة النفسية.
يتطلب الحفاظ على التفاؤل استراتيجيات ذهنية ونفسية تدرب الأفراد على كيفية التعامل مع الألم، الخوف، والفقدان. يقول مصطفى كلاب مختص الصحة النفسية في جميعة الهلال الأحمر الفلسطيني، إنّ تعزيز التفاؤل لا يعني تجاهل الواقع؛ بل هو القدرة على إعادة تشكيل الواقع بشكل يسمح للفرد مواصلة الحياة رغم الأزمات.
في ظروف الحرب، يصبح الحفاظ على التفاؤل عملية متكاملة، وفقًا لكلاب، تشمل البحث عن الأمل في اليوميات الصغيرة مثل التركيز على النعم الصغيرة التي تتيح للفرد الصمود، مثل إمكانية توفر الماء والطعام في ظروف صعبة. أيضًا التأكيد على القدرة على التغيير من خلال الاعتقاد بأن الظروف يمكن أن تتحسن في المستقبل، مع السعي وراء أهداف صغيرة يمكن تحقيقها. بالإضافة إلى الاحتفاظ بالمرونة النفسية وهي القدرة على التكيف مع التغيرات المفاجئة في البيئة المحيطة، مع التأكيد على استمرارية الحياة.
ويقدم هنا بعض الاستراتيجيات التي تساعد في تبني تفكير إيجابي وسط الحروب:
تبني التفكير الإيجابي وسط الحروب يعد من الأساليب القوية التي تساعد الأفراد على البقاء متماسكين نفسيًا في وجه المعاناة والضغوط النفسية الناتجة عن الأزمات. في ظل الحروب، قد يكون من الصعب الحفاظ على التفكير الإيجابي، لكن توجد استراتيجيات يمكن أن تساعد في تعزيز هذا النوع من التفكير وسط الظروف القاسية:
-
التأمل والتركيز على اللحظة الحالية:
يساعد التأمل على تصفية الذهن وتخفيف مشاعر القلق والتوتر. في الحروب، يمكن أن تكون الأفكار السلبية والأحداث المؤلمة متراكمة، لذا يجب تخصيص وقت يومي للتأمل والتركيز على اللحظة الحالية. يمكن استخدام تمارين التنفس العميق أو تقنيات الاسترخاء لتهدئة العقل.
الاستراتيجية: تحديد أوقات قصيرة خلال اليوم (مثلاً 10-15 دقيقة) للتركيز على التنفس العميق ومراقبة الأفكار دون الحكم عليها.2. التركيز على ما يمكن تغييره وتقبل ما لا يمكن تغييره:
إحدى الطرق الفعالة لتبني التفكير الإيجابي هي قبول الحقيقة الصعبة دون الاستسلام لها. ما من الممكن تغييره يتم العمل عليه، بينما ما لا يمكن تغييره يجب تقبله ومحاولة التكيف معه.
الاستراتيجية: تحديد مجالات التحكم في الحياة اليومية (مثل تنظيم الروتين، وتحديد الأهداف الصغيرة التي يمكن تحقيقها) مع تقبل المواقف التي تتجاوز السيطرة الشخصية.3. إعادة صياغة الأفكار السلبية:
في خضم الحروب والنزاعات، من السهل الانزلاق نحو الأفكار السلبية مثل "لن أتمكن من البقاء" أو "الوضع سيزداد سوءًا". استراتيجيات التفكير الإيجابي تعتمد على إعادة صياغة هذه الأفكار.
الاستراتيجية: عند مواجهة فكرة سلبية، حاول تحويلها إلى فرصة. على سبيل المثال، بدلًا من التفكير "الحياة لا معنى لها الآن"، يمكن التفكير "حتى في الأوقات الصعبة، يمكنني إيجاد طريقة للبقاء قويًا والاهتمام بصحتي النفسية".4. البحث عن النعم الصغيرة في الحياة اليومية:
التركيز على ما تبقى من النعم يمكن أن يكون عاملًا مهمًا في تعزيز التفكير الإيجابي. حتى في الأوقات الصعبة، هناك أشياء صغيرة تستحق الامتنان مثل سلامة الأسرة أو الأصدقاء، أو توفر الطعام والماء.
الاستراتيجية: كتابة يوميات الامتنان يوميًا، وتحديد ثلاث أشياء تشعر بالامتنان لها في ذلك اليوم، حتى لو كانت أمورًا بسيطة مثل شروق الشمس أو حظك في البقاء سالمًا.5. التواصل الاجتماعي والدعم المتبادل:
لا يمكن للإنسان أن يعيش في عزلة في أوقات الأزمات. المشاركة في مجموعات دعم اجتماعي، سواء كانت عائلية أو مجتمعية، تلعب دورًا كبيرًا في بناء التفكير الإيجابي.
الاستراتيجية: تفعيل شبكات الدعم الاجتماعية، والتحدث مع الأشخاص المقربين أو الانخراط في مجموعات دعم محلية لمشاركة الأفكار والتجارب.6. التمسك بالأمل رغم الظروف الصعبة:
التفاؤل لا يعني التغاضي عن الواقع، بل هو التمسك بالأمل في المستقبل، حتى في أحلك الأوقات. يُمكن أن يكون الإيمان بأن الوضع سيتحسن دافعًا كبيرًا للبقاء متفائلًا.
الاستراتيجية: التفكير في أن الصعوبات مؤقتة وأن المستقبل يحمل فرصًا جديدة، حتى ولو كانت التحديات الحالية تجعل من الصعب رؤية ذلك بوضوح.
إلى جانب ذلك، تلعب المجتمعات دورًا حيويًا في تعزيز التفاؤل بين أفرادها. إذ يمكن للمجتمع المحلي أن يكون مصدرًا هامًا للدعم النفسي والاجتماعي في أوقات الأزمات. وذلك من خلال مشاركة الأفراد في الأنشطة الجماعية، وتبادل القصص الإيجابية التي تبث الأمل كقصص النجاح رغم قساوة الظروف، كما يمكن للتعاون فيما بينهم لتوفير احتياجات الحياة خاصة بين أوساط النازحين أن يخلق بيئة صحية تدعم الأفراد وتساعدهم في الحفاظ على صحة نفسية أفضل.
يذكر من الأمثلة الواقعية على دور المجتمع المحلي في تعزيز التفاؤل:
- التعاون المجتمعي في غزة أثناء الحروب:
في ظل الحروب المتكررة في قطاع غزة، شكلت العديد من المجتمعات المحلية الصغيرة شبكات دعم لمساعدة الأسر المتضررة. على سبيل المثال، في أوقات النزوح، كانت العائلات تساعد بعضها البعض بتوفير الطعام والماء والملابس للأطفال. بالإضافة إلى ذلك، تم تنظيم فرق تطوعية من الجيران لزيارة الأسر المحتاجة ودعمها نفسيًا، مما ساعد في الحفاظ على الأمل والمرونة النفسية بين السكان.
- الأنشطة الجماعية في المخيمات:
في العديد من المخيمات الفلسطينية في مناطق الشتات، تُنظم الأنشطة الجماعية التي تجمع الأطفال والبالغين معًا، مثل المسابقات الثقافية والفنية والرياضية. هذه الأنشطة لا تقتصر على الترفيه فقط، بل تُستخدم أيضًا كوسيلة للتخفيف من التوتر وتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. على سبيل المثال، في مخيمات اللاجئين، يتم تنظيم ورش عمل للأطفال تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم من خلال الرسم والكتابة، مما يُعزز قدرتهم على التكيف مع الواقع الصعب.
- القصص الملهمة في المجتمعات الفلسطينية:
في ظل المعاناة اليومية من الحروب والاحتلال، كثيرًا ما يشارك الفلسطينيون قصصًا عن صمودهم ومقاومتهم، مما يساهم في تعزيز روح الأمل في المجتمعات. على سبيل المثال، تُنظم فعاليات دعم نفسي في المخيمات ومراكز الإيواء التي تبرز قصص النجاح والتغلب على الصعاب، إذ تساهم هذه القصص في تجديد الأمل وإلهام الأفراد لمواصلة مواجهة التحديات.
- البرامج الإغاثية التي تديرها المجتمعات المحلية:
اللجان إغاثية التي تُعنى بتوزيع المساعدات الإنسانية مثل الطعام والملابس والمستلزمات الطبية للأشخاص المتضررين، تساعد في ترابط العلاقات بين الأفراد. على سبيل المثال، في قطاع غزة، يتم التنسيق بين العائلات واللجان المجتمعية لتوزيع المساعدات داخل الأحياء أو المخيمات. يتعاون الأفراد فيما بينهم للحفاظ على استقرار مجتمعاتهم، مما يعزز التضامن ويخلق بيئة مليئة بالأمل وسط المعاناة.
- مشاركة المعرفة والمهارات:
تبادل المهارات والمعرفة بين أفرادها لتأمين احتياجات الحياة الأساسية. على سبيل المثال، في الكثير من المخيمات قاموا بتأسيس "مجموعات تعلم متبادلة" حيث يتبادل الجيران المعارف في مجالات مثل تعليم الأطفال، أو تقديم الدعم الطبي البسيط. هذا التعاون يعزز قدرة الأفراد على البقاء والعيش بكرامة في ظروف قاسية.
تساعد هذه الأساليب على خلق التفاؤل في نفوس الأفراد والأسر التي أنهكتها ظروف الحرب المضنية، إذ يعتبر التفاؤل آلية مقاومة نفسية، وهو ما يشير إليه المختص كلاب بقوله، "يساهم تبني التفكير الإيجابي في محافظة الأفراد على قدرتهم على التكيف مع الوضع الراهن، رغم كل المعيقات".
إن الحفاظ على التفاؤل وسط الأزمات ليس مجرد ترف فكري، بل هو أساس من أسس الصمود والنجاة النفسية في بيئات الحرب والنزاع. وبفضل التفاؤل، يمكن للإنسان أن يواجه التحديات، ويخفف من تأثيراتها النفسية، ويستمر في المضي قدمًا رغم كل الصعاب، وبهذا يمكن لسكان قطاع غزة أن يتجاوزوا المحن ويبنيوا مستقبلًا أفضل لأنفسهم ولأجيالهم القادمة.