في حي النصر الذي تحاصره الأنقاض شمال غرب مدينة غزة، يجلس الطفل محمد عابد، ذو الأعوام التسعة، فوق كرسي خشبي مهترئ أمام باب منزله المتهدم جزئيًا، كي يأخذ قسطا من الراحة بعد نقل جالونات المياه من مركبة توزعها بصورة مجانية إلى النازحين.
يقول الطفل عابد إنه يكابد عناء كبيرا يوميا بسبب تحديات انقطاع المياه، واضطراره إلى القيام بتعبئة جالونات المياه لمساعدة أمه، بعد أصبح سندها الوحيد نتيجة فقدان الأب خلال الحرب. لا يربط محمد بالتعليم سوى حقيبة مدرسية قديمة تآكلت أطرافها، يتفقدها من حين لآخر، ويضعها على صدره كأنّها كنزه الثمين. بينما تمر يداه الصغيرة فوق أغلفة كتبه الممزقة، تلمع عيناه بشوقٍ للمدرسة التي لم يتمكن من الذهاب إليها منذ أكثر من عام.
يقول محمد بصوت خافتٍ مليء بالألم: "كان حلمي أن أصبح معلمًا، لكن الحرب أخذت مدرستي وأصدقائي. والآن لا أملك سوى هذه الحقيبة ولا سبيل لدينا لمواصلة التعليم عن بعد بسبب انقطاع الإنترنت".
هل يتغير شيء؟
في مكان آخر من القطاع، تُلقي الطفلة آية ذات السنوات الاثنتي عشرة نظرة طويلة على دمية صنعتها من بقايا القماش. تجلس آية في زاوية غرفة شبه مظلمة تضم أشقاءها الخمسة، وتروي "كان من المفترض أن أكون في الصف السابع، لكنني تركت المدرسة قسراً، وأنا أساعد أمي الآن في إعداد الحلوى التي يقوم أشقائي ببيعها، بعد أن أصيب أبي نتيجة الحرب، ولم يعد لدينا مصدر دخل.
تضيف الطفلة "أحيانًا أغفو وأنا أفكر: هل سيتغير شيء في العام الجديد؟ هل أستطيع العودة إلى المدرسة؟"
بين الأحلام المؤجلة والمعاناة اليومية، يُحرم آلاف الأطفال في غزة من التعليم بسبب النزاعات المستمرة. تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 30% من الأطفال في قطاع غزة يعانون الانقطاع عن الدراسة، بينما تواجه 70% من المدارس مشكلات جسيمة تتعلق بالدمار ونقص التجهيزات التعليمية الأساسية، وتحولت الباقية إلى مراكز نزوح.
في تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) لعام 2024، أشار إلى أن حوالي عشرات الآلاف من الأطفال فقدوا إمكانية الوصول إلى التعليم في القطاع نتيجة الصراع المستمر، وبالإضافة إلى ذلك، يعاني الأطفال من آثار نفسية كارثية، إذ تظهر عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، بما في ذلك الخوف، التوتر، وصعوبة التركيز.
الواقع القاسي والظروف الاقتصادية المتدهورة نتيجة الحرب التي دخلت شهرها الخامس عشر، دفع الكثير من الأطفال إلى العمل قسراً لأجل المساعدة في دخل الأسرة. أمجد أبو سمرة (15 عامًا) هو واحد من أولئك الأطفال الذين اتخذ من جمع البلاستيك مهنةً لإعالة أسرته، وعن ذلك قال: "اضطررت للعمل في جمع البلاستيك من الشوارع؛ وبالتالي بيعه لمصاف الوقود، لنعيش أنا وأمي وإخوتي، كنت أحب دراستي، وكنت أطمح أن أكون طبيبًا، لكن الظروف جعلت جل طموحي هو الحصول على جمع أكبر قدر من البلاستيك".
في المقابل، يعاني الأطفال الذين تمكنوا من الالتحاق في مبادرات التعليم الفردية والمؤسساتية، من صعوبات أخرى. تقول المعلمة سامية خليل، التي تدرّس في خيمة تعليمية: "نحاول توفير بيئة تعليمية لهم رغم الظروف، لكن الصفوف مكتظة، والأدوات شحيحة، وهناك أطفال يجلسون على الأرض؛ لأننا لا نملك مقاعد".
توضح خليل أنها وزملائها فريق متطوع لخدمة الطلبة في المراحل الابتدائية والإعدادية وذلك لأجل الدفع بعجلة التعليم التي توقفت قسرًا بسبب الحرب، مشيرةً إلى أن هناك احتياجًا ماسًا للموارد التعليمية كالكتب والقرطاسية والأجهزة اللوحية والكهرباء والإنترنت، وأنّ "بقاء الوضع على ما هو عليه ينذر بوجود رغبة حقيقية في تجهيل هذا الجيل".
تشير التقديرات الأممية إلى أن عدد الأطفال خارج المدارس، بلغ حوالي 600 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 6-17 عامًا حرموا من التعليم نتيجة الحرب في غزة. ودمرت 53 مدرسة بالكامل، بينما تحتاج 170 مدرسة إلى ترميم عاجل لتكون صالحة للاستخدام.
وعلى الصعيد النفسي العامل النفسي، فقد أظهرت دراسات حديثة أن 40% من الأطفال في غزة يعانون اضطرابات نفسية نتيجة الحروب المتكررة.
ومما لا شك فيه، فإن هذا الواقع يتناقض كلياً مع ما ورد في المواثيق الدولية التي كفلت الحق في التعليم، فضلا عن ضرورة تحييد الأطفال عن أوجه الصراع، بالإضافة إلى ضرورة توفير كافة المساعدات اللازمة بما في ذلك الماء والغذاء، بوصفهم مدنيين.
تحديات جمة
من جهته قال الباحث التربوي فتحي رضوان، إن التحديات التي تواجه التعليم في غزة، متعددة، أبرزها، نقص التمويل، حيث لا تتوفر إلى الآن ميزانيات كافية لإعادة ترميم المدارس أو بناء مدارس جديدة، وبخاصة أن الحرب لم تتوقف.
وأوضح رضوان، أن هناك ازدحاما في الصفوف التي أسسها المبادرون، حيث يجري أحيانا دمج طلبة من فصول مختلفة في دروس مشتركة، مما يزيد حالة التشتت والضغط على الأطفال والمعلمين على حد سواء، مبينا أن هناك نقصًا في الموارد التعليمية، مثل الكتب، المقاعد، والمستلزمات الأساسية.
ولفت إلى أن الأثر النفسي للحرب، يؤدي أثار نفسية عميقة بالنسبة للطلبة في مختلف المراحل وبخاصة المرحلة الدنيا، حيث إن القصف المستمر والنزوح إلى جانب تعطيل الدراسة يصيب الأطفال بحالة من القلق والخوف المستمر.
يقول الباحث التربوي "إن استمرار الأزمة التعليمية قد يؤدي إلى تداعيات كارثية على المدى البعيد. فتزايد أعداد الأطفال المحرومين من التعليم يهدد بارتفاع معدلات الأمية والتسرب المدرسي، مما يؤثر سلبًا على مستقبل الأجيال القادمة".
وأضاف رضوان: "التعليم ليس مجرد حق، بل هو أداة لبناء المجتمعات، وحرمان الأطفال في غزة من التعليم يعني أننا نحرم المجتمع من قيادات شابة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية".
وعلى أرض الواقع، يصطدم برنامج التعليم الإلكتروني الذي يدار حديثا عبر وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، بجملة من التحديات لا سيما أن منصات التعليم إلكترونية بحاجة إلى تزود الأفراد بالإنترنت وهو ما تعجز الأسر الهشة عن توفيره، وبخاصة في ظل الفقر المدقع الذي تعانيه العائلات، ناهيك عن ارتفاع تكاليف شراء خدمة الإنترنت (2 شيكل تكلفة الساعة)، يتزامن ذلك مع غياب الطاقة الكهربائية المشغلة للأجهزة اللوحية أو الهواتف المحمولة، والتي يمكن أن تستخدم في عملية التعليم.
إلى جانب ذلك، فإن هناك تحدٍ آخر تعانيه الأسر الهشة في مواصلة تعليم أطفالها أبرزها عدم توفر أجهزة إلكترونية كافية يمكن أن تدعم تعليم الأطفال عن بعد وبخاصة إذا تعدد الأطفال في الأسرة الواحدة، الأمر الذي يضع أولياء الأمور وبخاصة الأمهات في حالة من الضغط النفسي.
تدخل شامل
أمام هذا الواقع رأى المحامي بلال البكري، أن ما يواجهه قطاع التعليم في غزة منافيًا لكافة القوانين والمواثيق التي رعت الحق في التعليم في العالم، مؤكداً أن هذا القطاع يتطلب جهدا مشتركا وتدخل فوريًا وشامل لتعزيز فرص التعليم لا سيما الأطفال المهمشين الذين يعانون انعداما كاملاً لكافة مقومات التعليم.
واعتبر البكري أن الاحتلال يسعى إلى تجهيل جيل كبير من الفلسطينيين عبر الوقف القسري لعجلة التعليم للعام التالي على التوالي، مؤكدا ضرورة تدخل المجتمع الدولي لأجل الضغط على الاحتلال من أجل استئناف العملية التعليمية. وتوفير كافة الاحتياجات اللازمة لها.
وطالب بضرورة توفير تمويل عاجل لترميم المدارس المدمرة وضمان استمرارية التعليم، فضلا عن أهمية الضغط على الجهات الدولية لتأمين أدوات تعليمية أساسية، مشدداً على أهمية إنشاء برامج دعم نفسي للأطفال لمساعدتهم على تجاوز آثار النزاعات، وتعزيز برامج التعليم البديل، مثل التعليم الإلكتروني أو التعليم المجتمعي، لضمان عدم انقطاع الأطفال عن الدراسة.
رغم كل الألم والمعاناة، فإن الأطفال في غزة ما زالوا يتمسكون بأحلامهم الصغيرة، فمحمد يحلم بالعودة إلى مدرسته، وآية تتمنى أن تكمل دراستها وتصبح طبيبة، هذه الأحلام البسيطة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى دعم فوري من الجميع.
لذا ترقب العيون عام 2025 بأن يحمل بارقة أمل، وأن يكون بداية لتغيير جذري في واقع التعليم في غزة. فهؤلاء الأطفال يستحقون أن يعيشوا بسلام، وأن ينالوا حقهم في التعليم لبناء مستقبل أفضل.