كريسماس غزة: تبادل الخوف بدلاً من الهدايا

كريسماس غزة: تبادل الخوف بدلاً من الهدايا

في إحدى ليالي ديسمبر الباردة، وعلى مشارف أعياد الميلاد عام 1914، انطلقت من الخنادق الألمانية على الجبهة الغربية ترانيم عيد الميلاد، مخترقة وحشة الحرب العالمية الأولى التي قضت على ملايين الأرواح. بلمسة إنسانية نادرة وسط فوضى الدماء والبارود، خرج الجنود من خنادقهم، عابرين خطوط القتال، ليس ليقاتلوا بل ليحتفلوا. الترانيم جمعت الألمان والبريطانيين، وأوقفت هدير المدافع، ولو مؤقتاً، لتخلد في التاريخ تحت مسمى "هدنة الكريسماس".

بينما نتأمل ذلك الحدث التاريخي، يقودنا هذا المشهد إلى غزة، حيث يعيش السكان المدنيون اليوم مأساة لا تقل قسوة عن أهوال الجبهة الغربية، لكن دون أن تكون لهم فرصة هدنة أو هدير يهدأ. فوسط القصف والحصار، يعيش أكثر من مليوني إنسان تحت وطأة الفقر والجوع منذ 14 شهراً، حيث تتزايد معاناة الفئات الهشة: الأطفال، النساء، وكبار السن، الذين يكافحون للبقاء على قيد الحياة وسط شح الغذاء ونقص الإمدادات.

في غزة، تحولت أبسط أساسيات الحياة، مثل شرب المياه النظيفة، إلى رفاهية. مع انهيار البنية التحتية واستمرار الحصار، يعتمد السكان على المياه الملوثة التي تحمل معها الأمراض والأوبئة. أما الغذاء، فإن طوابير الخبز تمتد بلا نهاية، حيث يبلغ سعر كيس الدقيق أرقاماً خيالية، تعجز عنها معظم الأسر الفقيرة. لذا يبدو الاحتفال بالكريسماس، ضرب من الماضي بالنسبة لهم الآن.

يقول ماجد طارق (*) وهو رجل مسيحي يقيم في قطاع غزة، "كنت أتمنى أن أحتفل مع أبنائي بوجبة بسيطة على مائدة الكريسماس، لكن بدلاً من ذلك، قضيت الوقت بحثاً عن طعام بين البسطات التي تبدو كما لو أنها في نيونيوك أو لندن، الأسعار جنونية بالطبع ونحن لا نملك رفاهية اقتناء الخضار أو الفاكهة بأسعار فلكية كهذه، ناهيك عن عدم توفر اللحوم والبروتين منذ أشهر طويلة".

يشعر ماجد بالكثير من الأذى النفسي، حيث خسر الكثير من وزنه ويضطر لتناول وجبتين في اليوم الواحد فقط، ويشير إلى أنه أصبح يشعر بالهشاشة النفسية والصحية على حد سواء نتيجة الوضع القائم، وغياب أفق وقف الحرب.

على غرار هدنة الكريسماس عام 1914، يتساءل ماجد: أين الإنسانية وسط هذا الصراع؟ هل يمكن أن تنعم هذه الأرض بسلام مؤقت يعيد إلينا شيئًا من الكرامة الإنسانية؟، نحن شعب طواق إلى الحرية والفرح، لذلك أوقفوا هذا الحرب كي نعيش بسلام"، يقول ومسحة حزن تكسو وجهه.

ولا توجد مؤشرات حقيقية على قرب التوصل إلى قرار وقف مؤقت أو دائم لإطلاق النار في غزة والذي اندلع في السابع من أكتوبر 2023، وبخاصة في ضوء انخفاض سقف التوقعات من المباحثات الحالية الجارية في كل من القاهرة والدوحة برعاية أمريكية، لأجل إبرام اتفاق بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية لتبادل الرهائن ووقف إطلاق النار.

في منطقة المواصي غرب خان يونس، يجلس السيد طوني المصري المعروف بـ "أبو أسعد" مع زوجته وجاره حسام أمام خيمتهم الصغيرة. يحتسون القهوة ويتذكرون احتفالات عيد الميلاد التي فاتتهم لعام آخر.

نزح الرجل البالغ من العمر 78 عاما أول مرة خلال النكبة عام 1948 من مسقط رأسه حيفا، حيث ولد في حي وادي النسناس. اضطرت عائلته إلى الفرار إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حيث كان يقيم في مخيم ضبية، قبل أن يشاء القدر أن يكون من سكان قطاع غزة. وفي حديثه لـالأمم المتحدة قال: "هذه ليست المرة الأولى التي أفقد فيها منزلي وأحبائي".

يستذكر العم طوني السعادة والفرح التي كانت تملأ قطاع غزة خلال موسم الأعياد قبل الحرب التي تبدو بلا نهاية، حيث قال: "كنا نحتفل بعيد الميلاد. نذهب إلى الكنيسة لأداء الطقوس الدينية، ونتبادل التهاني. وكان الخوري – راعي الطائفة - حاضرا بيننا في ساحة الكنيسة. كان جيراننا في مدينة غزة يعايدوننا كل عام. كنت أسافر إلى بيت لحم لزيارة أولادي وأحفادي، ولكن الآن، وللسنة الثانية، حرمنا من الأعياد بسبب الحرب".

وقال أبو أسعد إنه كان يزين شجرة عيد الميلاد مع زوجته أمل عبود خلال هذا الموسم المجيد، ويسهران ليلة الميلاد بعد شراء المعمول والكعك وغيرها من الحلوى. 

وأضاف: "تبدأ الاحتفالات بعد منتصف الليل. كنا نجهز عشاءنا، ونجلس معا، ويكون أبنائي وبناتي بجانبي. ولكن الآن، لا يوجد أحد هنا. سأجلس أنا وزوجتي وحدنا لنحتفل، وليس لدينا أحد آخر هنا. هذا أصعب شيء بالنسبة لي الآن".

ويبدو الواقع في غزة أكثر قتامة من أي مكان آخر من مناطق الصراع، فبدلاً من تبادل الهدايا، يتبادل المدنيون الغزيون الخوف والتعب، ويقضون أوقاتهم منصتين إلى نشرات الأخبار لعل نبأ يخطئ طريقه إلى مسامعهم يرتبط بقرب إتمام صفقة.  

يقول خالد صقر، وهو شاب في الثلاثينات من عمره ويعمل مهندساً: "الاحتفال بالنسبة لي ولأي شخص في غزة يرتبط بوقف الحرب، كل ما أتمناه الآن هو أن يتوقف هذا الجحيم ليوم واحد، أن أرى أطفالي يضحكون بدلاً من أن يبكوا جوعاً."

لا يختلف الحال كثيرا بالنسبة للسيدة راوية سالم، وهي نازحة وأم لطفلين وتقيم الآن في منطقة الزوايدة وسط غزة: "في مثل هذا التوقيت من كل عام كنا نتحضر قبل أيام من الاحتفال برأس السنة الميلادية، نتفحص عروض المطاعم والفنادق لحضور الحفلات المتواضعة، ونزين البيت بالهدايا، لكننا بدلاً من ذلك، نقضي اليوم في الخيام ونبحث عن دقيق لتحضير رغيف خبز صغير، هل يمكن أن تكون هناك هدنة إنسانية توقف معاناتنا ولو ليوم واحد؟".

في ظل هذا المشهد القاسي، تظهر دعوات ملحة لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي للتدخل لوقف إطلاق النار.  يقول أمجد الشوا رئيس شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة، منذ بداية الحرب منع الاحتلال دخول امدادات الغذاء والدواء والماء والكهرباء وكل احتياجات قطاع، و ما يسمح بدخوله يأتي في إطار الاستثناءات، مشيراً إلى أن الكميات التي تدخل من مساعدات لا تستجيب سوى لحاجة 7% بأقصى حد من احتياجات السكان، والتي تضاعفت نتيجة الحرب.
وأكد الشوا على ضرورة تدخل المجتمع الدولي لأجل وقف الحرب والعمل بشكل مشترك مع المنظمات الأممية المختلفة من أجل توفير المياه النقية والغذاء إلى موائد الفقراء، وتوفير العلاج للمرضى، والأهم من ذلك، أن يعاد الأمل إلى قلوب السكان الذين أرهقهم الحرب والجوع، موضحا أن وقف إطلاق النار لا يعني فقط وقف الحرب، بل هو القدرة على تأمين حياة كريمة للمدنيين الذين يدفعون الثمن الأكبر نتيجة هذه الحرب.  

تقول الرواية التاريخية إن جنود الجبهة الغربية قد عادوا إلى خنادقهم بعد انتهاء هدنة الكريسماس في ذلك الوقت، في حين لا تزال غزة تنتظر يومًا تخرج فيه من خنادق الحرب والجوع، نحو أفق سلام حقيقي. يوم لن تكون فيه هدنة مؤقتة بل بداية لواقع جديد، حيث يمكن للأطفال أن يحلموا، والنساء أن يطمحن، والشيوخ أن يعيشوا ما تبقى لهم بكرامة.

(*) اسماء مستعارة