بعد أقلّ من ثماني ساعات على إعلان وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، قاد محمد أبو عبيد، وهو سائق تاكسي، سيّارته، واتّجه للعمل متجوّلاً في شوارع القطاع، التي شهدت أضراراً كبيرة بفعل الحرب.
قضّت الحرب، على مدار عشرة أيام، مضاجع أسرة أبو عبيد (38 عاماً) ومَن حولها مِن سكان شمالي قطاع غزة، غير أن ذلك لم يكن حائلاً أمام ممارسة عمله بحثاً عن الرزق. يقول إنه لا يزال واقعاً تحت تأثير الصدمة. ومع هذا، لا مناص أمامه من مواصلة الكدّ في هذه الحياة لإطعام أفراد أسرته الخمسة، وإذا لم يعمل، لن يكون في مقدوره سداد الايجار الشهري للمسكن.
يضيف السائق أن «الناس هنا مجبرة على مواصلة الحياة مع الحرب»، متابعاً: «نحن فعلياً نعيش كلّ ثلاث إلى أربع سنوات حرباً شرسة، وليس من الحكمة أن تتوقف الحياة بين حرب وأخرى... كُتب علينا أن نستمرّ».
حال أبو عبيد هي قرار الكلّ في هذا القطاع المحاصَر للعام الرابع عشر على التوالي. فجأة، من دون مقدّمات، خرج الناس من مساكنهم بعد معركة مضنية بحثاً عن فرص الحياة. ضجّت المقاهي بالزبائن، وفتحت المتاجر أبوابها، وعاد الناس إلى ممارسة الحياة اليومية، كأن الحرب انتهت منذ سنة أو أكثر! بعض الأمّهات اقتنصْن الفرصة واتّجهن بأطفالهن إلى مراكز الترفيه.
أم محمد سليم وضعت طفلتها ذات السنوات الخمس فوق لعبة دوّارة للأحصنة داخل مركز «صب واي» غرب مدينة غزة. وبمجرّد أن بدأت اللعبة تدور، أخذت الأم تُصفّق لطفلتها في محاولة منها للتخفيف من حدّة الآثار النفسية التي تركت بصمتها في نفوس الصغار.
تقول أم محمد (33 عاماً): «الأطفال هم الأكثر تضرّراً من هذه الحرب، لقد أفزعهم القصف المجنون، ولذلك جئت بطفلتي إلى هنا للتخفيف من معاناتها مع الخوف». وتضيف: «ندرك أن أوقات الفرح قليلة، ولذا علينا استثمارها، على الأقلّ من أجل هؤلاء الصغار».
أيضاً، بعد أقلّ من يوم واحد، أقام الشاب سامي، أرجوحة حديدية أكلها الصدأ، داخل شارع ضيّق في مخيم خانيونس جنوبي القطاع كوسيلة لتحصيل الرزق، حتى لو قليلاً، بعد انقطاع دام عشرة أيام عن العمل، مع أن اليوم الأول لعيد الفطر كان يوم عمل على رغم الحرب، عقب إصرار الأطفال على الفرح وألّا يؤجّلوا العيد بسبب القصف.
يدفع سامي أرجوحته بيدَين راجفتَين، ويرفض الحديث عن شيء. كان واضحاً أنه متوتّر وسط زحمة الأطفال حوله.
تحاول صفاء حمدان (10 أعوام) الاحتفال على طريقتها بانتهاء الحرب، فتتقلّد مقعداً برفقة شقيقتها فوق الأرجوحة المتهالكة التي أقامها سامي والضحكة مرسومة على وجهيهما. تقول الطفلة بعد أن دفعت أجرة الركوب (شيكل واحد) لكلّ منهما، إن أمّها منحتها تذكرة الأرجوحة لأنها لا تستطيع اصطحابها وأختها إلى مراكز الترفيه التي تحتاج الكثير من المال. وتضيف: «أبي متعطّل عن العمل ولا يقدر على دفع تذاكرها».
في مكان ثانٍ، تحت مظلّة مطلّة على شاطئ بحر غزة، حملق مهدي طيبي وطفلتاه الوحيدتان في قرص الشمس وهو يتسلّل إلى الماء. قرر اصطحابهما وزوجته إلى الشاطئ «لأن البحر هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون باعثاً على الهدوء والراحة»، كما قال.
وأضاف طيبي، وهو عامل بأجر يومي: «إحدى طفلتيّ التوأمين تعاني من قلق شديد نتيجة الحرب، وتفزع خلال نومها... نحن نعيش من أجل هؤلاء الأطفال، ومن حقهم علينا أن نراعي مشاعرهم رغم أن تكلفة الجلوس في هذا المكان تفوق أجرة عملي اليومية (30 شيكل، ما يقارب 8 دولارات أميركية)».
كلّ تلك المشاهد كفيلة بأن تؤكد أن الناس هنا أخذوا على عاتقهم تضميد جراحهم بأنفسهم، مع أن ذلك لا يكفي للتخفيف من آثار هذه الحرب، التي تستدعي وجود برامج صحّية للتفريغ النفسي والعاطفي والحدّ من آثار ما بعد الصدمة.