يعد المجتمع الفلسطيني عمومًا مجتمعًا فتيًا، ومع ذلك تصم القوى السياسية أذانها عن سماع أراء الشباب الذين يشكلون ما نسبته21% من المجتمع، في الأحداث الدائرة حولهم.
تتنافر الرؤى المرتبطة باليوم التالي للحرب على قطاع غزة، وفق مفهوم واستراتيجيات الأقطاب السياسية القائمة بألوانها المختلفة، وقد تتقاطع في بعض الأحيان، وما بين التنافر والتقاطع تسحق ألاف الأصوات الشابة التي لا ترى ضرورة لوجود أطر سياسية تتولى زمام إدارة حكم القطاع بعد النكبة التي حلت به وأحالته إلى عصور قديمة.
وعلى الرغم من غياب بوادر وقف إطلاق النار في غزة، وفشل صفقات تبادل الرهائن، وبخاصة في ظل رفض الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من القطاع وإبقاء سيطرته الأمنية والعسكرية عليه، إلا أن الفلسطينيين لازالوا يتنافسون على طرح الرؤى المتعلقة باليوم التالي للحرب بما يضمن للكتل السياسية الحفاظ على حصتها في إدارة شأن القطاع.
ومن هنا ينبري سؤال: أليس من حق الشباب المشاركة السياسية وأبداء أراءهم إزاء المستقبل؟
يتهكم أحد الشباب ويدعى علي حسن (*) في إجابته على السؤال الآنف، قائلاً "تبدو القصة أعقد مما يتصور أي شخص خارج حدود جغرافيا المكان، فنحن لا صوت لنا أبداً، ولذلك تجد أن الكثير منا يرغب في الهجرة، وبخاصة بعدما سحق الاحتلال كافة مقومات الحياة خلال عام كامل من الحرب".
وأضاف حسن وهو شاب في الثالثة والعشرين من العمر، أنهى تعليمه الجامعي قبل الحرب بأشهر قليلة: "يفترضون (أي السياسيون) أننا مؤطرين سياسيًا ونتقاطع مع رؤى الأحزاب السياسية، وهذا مخالف للواقع فهناك جزء كبير من الشباب ليس لديهم انتماءات سياسية ومن حقهم الدفاع عن أفكارهم تجاه المستقبل وفق رؤيتهم المستقلة".
واستنكر أن يتم استخدام الشباب كشعارات في التعبير عن الصبر والصمود في وجه النزوح والتشبث بالحياة عبر تحمل تبعات الحرب في الكد والتعب لأجل تحصيل الماء والحطب وتشييد الخيام وابتكار أفكار ومبادرات لمساعدة الناس، "في الوقت الذي يتناسى فيه السياسيون أن من حقنا أن يكون شكل اليوم التالي ملبياً لرغباتنا وتطلعاتنا".
وحول هذه التطلعات والأفكار قال الشاب حسن: "أنا أرى أننا لسنا في حاجة إلى حكومات فصائلية، نحن في أمس الحاجة إلى حكومة تكنوقراط مستقلة، تقدم مصالح الناس التي ذاقت الأمرين في هذه الحرب على أي مصالح ورؤى سياسية، وأن تعمل على البناء والإعمار وتحسين فرص الحياة".
وشدد على أهمية أن تعزز هذه الحكومة فرص تحفيز الشباب على الإعمار وإشراكهم في برامجه، "هناك الكثير من العقول المبدعة والأفكار الخلاقة، ولن نعجز على التخطيط رغم كل ما حل بنا من أسى، وعلينا ألا نسمح بأن تكون غزة بيئة طاردة للشباب وفق ما أراد الاحتلال وسعى إليه عبر تدمير كافة مقومات الحياة، لكن استمرار التناحر السياسي على تقسيم الكعكة سيدفعنا حتماً للهجرة"، حسبما قال.
ويشكل عدد ضحايا الحرب من قطاع غزة، ما نسبته 1.8% من اجمالي سكان القطاع، منهم حوالي 24% من الشباب (26% ذكور، 22% اناث)، كما غادر القطاع عدة الاف من الفلسطينيين الشباب منذ بداية الحرب، خشية على مستقبلهم.
ومع ذلك، لم تطرح أي من الأطياف السياسية على الساحة الفلسطينية، فكرة إشراك الشباب الذين دفعوا فتورة باهظة نتيجة الحرب، في طرح رؤاهم نحو المستقبل السياسي الذي يرغبون في تشكيله، والذي من المفترض أن يفضي إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز فرص التعافي من ويلات الحرب.
يتقاطع تصور الشابة الفلسطينية صفاء عبد الرحيم (29 عاماً) في شكل اليوم التالي مع سابقها، وتزيد على قوله "نحن بحاجة إلى ضمان استقلالية المؤسسات وشفافية التوظيف والمنح وحرية الحركة والسفر".
وأضافت عبد الرحيم التي تعمل منسقة للمشاريع في إحدى مؤسسات المجتمع المدني بغزة، "سئمنا الانقسام السياسي والتجاذبات، يجب أن يكون هناك رؤى فلسطينية مستقلة تشجع على التبادل الثقافي وتعزز التغذية الفكرية الوطنية السليمة المستقلة وليست القائمة على التحريض، وأن تساعد في تحسين النمو الاقتصادي وتصنع فرص متكافئة لجميع الفئات، وتعزيز الضمان الاجتماعي".
وترهن الشابة عبد الرحيم بقاءها في قطاع غزة بتحقق هذه الرؤيا وإلا فأنها ستجد نفسها مضطرة للهجرة إلى أي من الدول التي تؤمن بحقوق وكرامة الإنسان، وتساعد في التعافي من ويلات الحرب التي قالت إنها تركت أثرا غائرا في نفوس مختلف الفئات المجتمعية وبخاصة الشباب.
في الغضون، قال الكاتب الشاب كريم أبو الروس في مقالة : لماذا لا يسأل أحد الغزيين عن اليوم التالي الذي يريدونه سياسياً؟ ولماذا على طرف فشل في تحقيق أي شيء، أن يكون هو من يفاوض على "اليوم التالي"؟ ولماذا يسمح لنفسه بأن يفرض شكل "اليوم التالي" على الغزيين؟
وأضاف أبو الروس "لماذا لا يسأل أحد النازحين في الخيام، الذين يصطفون على طوابير المياه ويركضون خلف "المساعدات" التي ترميها الطائرات في مشهد بشع ومخيف وغير إنساني، عن "اليوم التالي" الذي يريدونه؟".
وأوضح أن ما اسماها "ماكينات التضليل الإعلامية والإقليمية" تحاول أن "تتعامى عن هذه الأسئلة البديهية، لأنها هي جوهر القضية الفعلي؛ بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وقدرته على تجديد الحياة مرة أخرى".
وكتب أبو الروس "تجديد الحياة لا يعني "إعادة الإعمار"، فهذه العملية ليست أكثر من عملية اقتصادية وسياسية يتنازع فيها الممولون ومن يضعون اعتباراتهم السياسية. لكن تجديد الحياة هو الذي سيبعث في المكان وفي أهله الروحَ مرةً أخرى. وهذا لن يتم إلا بخيارات الغزيين وبقائهم الوجودي وقدرتهم على تشكيل عصب المجتمع مرة أخرى، بعد أن انهار كل شيء في هذه المذبحة المروعة".
واستطرد "هذا بالضبط هو السؤال السياسي الذي لا يريد أحد أن يجيب عنه. لماذا لا يسأل أحد الغزيين عن رأيهم في اليوم التالي؟"