في بيئة تتسم بالفوضى وانعدام الأمان نتيجة الحرب القائمة في قطاع غزة منذ قرابة العام، تتضاعف معاناة النساء الأرامل، فكيف إذا رافقت هذه الفوضى عادات وتقاليد صارمة؟، فضلاً عن غياب أدوات الحماية؟
مما لا شك فيه فإن النساء الأرامل في مجتمع كقطاع غزة الذي يعاني سلطوية ذكورية، يواجهن نظرة مجتمعية قاسية، تشكك في قدرتهن على تربية الأطفال بمفردهن، وهذا الضغط النفسي يضاف إلى التحديات المادية التي يواجهنها، ما يجعل حياتهن مليئة بالتحديات والصعوبات، وتجعلهن يحاربن على عدة جبهات.
تلك السيدة الفلسطينية التي تدعى وداد مسعود، والتي كانت تهتم باقتناء قطع الأثاث لمسكنها بعناية فائقة، انسجاما مع قواعد الديكور حتى يبدو بيتها في أبهى حلة أمام زائريه من الأقرباء والأصدقاء، أصبحت وأسرتها بلا مسكن، وهي واحدة من مئات النساء اللواتي يحاربن الآن لأجل أطفالهن.
وداد سيدة في منتصف عقدها الثالث، كانت تعيش حياة بسيطة مع زوجها وأبنائها الثلاثة في بيت جميل لا تزال تحتفظ بصوره عبر هاتفها، لكن الحرب التي اندلعت قبل قرابة عام في قطاع غزة، قد جاءت عليه وسلبتها كل شيء.
اضطرت للنزوح عن مسكنها في شمال قطاع غزة في مطلع نوفمبر الماضي، لتجد نفسها وزوجها وأطفالها الثلاثة في مركز إيواء مؤقت مع مئات العائلات الأخرى التي أجبرتهم الحرب على النزوح قسراً.
بعد انسحاب الجيش وعودة وداد إلى منزلها، صُدمت بمشهد لم تكن تتوقعه. لم يكن بيتها سوى أثر بعد عين، ركام من الحجارة والذكريات المفقودة. لم يتبقَّ شيء من حياتها السابقة. قررت وداد الإقامة في بيت أحد جيرانها الآيل للسقوط، فلم أمام أسرتها خيار آخر، لتجد نفسها بعد أيام أرملة بعدما فقدت زوجها خلال إحدى الغارات.
تعيش هذه السيدة الآن مع أطفالها الثلاثة في غرفة صغيرة، يتقاسمون فيها الألم والخوف مع كل نفس يأخذونه.
تقول السيدة: "أبنائي يعيشون وسط أجواء الخوف المستمر، فأصغرهم، الذي لم يتجاوز العاشرة، يعاني من الكوابيس المستمرة جراء أصوات القذائف والانفجارات التي لا تزال عالقة في ذهنه".
تتعثر وداد في الركام بشكل يومي فالدخول والخروج من المسكن الذي تقيم فيه الآن يستوجب الحذر لأنه لم يتبقى منه سوى غرفة واحدة وبقايا حمام يغطونه بلوح من الصفيح ونايلون وخرق بالية. وخلال إحدى محاولاتها للبحث عن أي شيء يصلح لإطعام أطفالها، تعثرت بالحجارة وأصيبت في إصبع قدمها بجروح لم تلتئم بعد، نتيجة ففقدان المناعة ونقص الفيتامينات والكالسيوم، مما جعل من أبسط الجروح مشكلة صحية كبيرة بالنسبة لها، وبخاصة أنها تعاني من مرض السكري.
وداد التي توقفت عن العمل في مهنة صناعة الكيك بفعل الحرب، ورغم الألم الذي تعانيه لا تزال تواصل صمودها، حيث تحاول أن تكون قوية أمام أبنائها الذين ينظرون إليها كملاذهم الوحيد، حسبما قالت.
تنمو الأيام ببطء في ذلك المنزل المتهالك، تضع وداد وثلاثتها رؤوسهم ليلاً على وسائد متهالكة وفراش بال سوي بالأرض، لا يوفر سوى القليل من الراحة. يتقاسم الأبناء الغرفة معها، ينامون إلى جوارها، وسط أجواء محفوفة بالخوف والمخاطر، حيث تسمع أصوات الانفجارات على مقربة وتقضي ليلها بعينين مفتوحتين خشية من خطر داهم قد يأت في لحظة غفوة.
تعيش هذه الأرملة الآن بلا أي مصدر دخل، فلا يوجد عمل والارتفاع غير المسبوق للمواد الخام وفقدان الكثير منها يعجزها عن استكمال مشروع صناعة الكيك، ولا أمل واضح في المستقبل بالنسبة لها، وبخاصة مع غياب أفق وقف إطلاق النار، للشهر الحادي عشر على التوالي.
الأسواق تعج بالخضروات، لكن أسعارها تضاعفت على نحو جنوني، تقول وداد، ثم تضيف: "الخضروات والفاكهة واللحوم أصبحت حلماً بعيد المنال، فلا طاقة لنا على شرائها ونعتمد في طعامنا فقط على البقوليات المعلبة".
كل رحلة إلى السوق تعني حسرة إضافية، قالت وداد "فحتى إن استطاعت الوصول إليه، لن تجد المال لتأمين احتياجات أسرتك، أصبحت عالقة في حلقة من العجز لا أستطيع كسرها".
وتجد هذه السيدة معضلة تتعلق بغياب الأجهزة الرقابية الفاعلة، سواء فيما يتعلق بحالة الاحتكار التي يمارسها التجار في الأسواق أو استغلال القائمين على توزيع المساعدات في منح طرود غذائية لعائلات دون أخرى، لدواعي رفضت الإفصاح عنها.
وقالت: "المشكلة أنه لا يوجد بوابة رسمية فاعلة لتقديم الشكاوى، كما لا يوجد أدوات فاعلة قادرة على ممارسة الضغط على التجار لأجل خفض الأسعار أو منع التلاعب في توزيع المساعدات، أو أي من الممارسات التي تضمن الحفاظ على كرامة الأرامل والأيتام، اللواتي يتأثرن أكثر من غيرهن من حالة الاستغلال والفساد القائمة تحت ظلال الحرب".
مسؤولية رعاية الأبناء
لم تترك الحرب ندوبًا فقط على جسد وداد، بل أثرت على آلاف الأرامل في مثل حالتها، فظروف الحرب والحرمان أرهقت قلوب الآلاف منهن -لا يتوفر رقم دقيق عن أعدادهن- وأثقلت كاهلهن بتحمل مسؤولية رعاية الأبناء في غياب المعيل، وكذلك بسبب شكواهن المتزايدة من غياب العدالة في توزيع المساعدات الإنسانية، حيث يجدن أنفسهن في مواجهة معاناة قاسية دون دعم كافٍ.
ووفقاً لتقديرات خبراء وحقوقيين، فإن هؤلاء الأرامل التي تتزايد أعدادهن بعدما تجاوز عدد الضحايا 40 ألفاً "أصبحن الآن عرضة بشكل متزايد للعنف القائم على النوع الاجتماعي، وغير قادرات على إعالة أنفسهن وأسرهن، ويفتقرن إلى الوصول إلى المنظمات التي يمكن أن تساعدهن".
وقالت لوسي ثلجية، رئيسة برنامج المرأة في مركز تحويل الصراع الفلسطيني، وهي منظمة مجتمع مدني مقرها بيت لحم، إن "معظم العبء سيقع على عاتق النساء".
وتابعت ثلجية في تصريح صحفي: "على هؤلاء الأرامل أن يكن قويات حتى يتمكن من بدء حياة جديدة ورعاية أطفالهن، دون أن ننسى معاناة النساء اللواتي أصبح أزواجهن معاقين أو لديهم إصابات خطيرة، وبالتالي بات العبء عليهن ثقيلا".
وقالت الأمم المتحدة في تقرير صدر عام 2018، إن "القوانين في قطاع غزة تضع المرأة تحت حماية ووصاية الرجل، وتفشل في حماية المواطنات من جرائم الشرف والاغتصاب الزوجي والعنف المنزلي". وأشار التقرير إلى أنه "يمكن أن تفقد المرأة حقها في النفقة، إذا اختارت مغادرة منزل زوجها".
وبلغت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة للعام 2022 في الأراضي الفلسطينية %19 من مجمل النساء في سن العمل، في حين أن نسبة مشاركة الرجال في القوى العاملة بلغت %71، وفقاً لبيانات المركز الفلسطيني للإحصاء، وهذا يعني أنه لا يزال هناك فجوة في مستوى حصول المرأة على عمل، مما يعيق مشاركتها بشكل فاعل وعلى أساس التكافؤ، وتمكينها اقتصاديا.
وتعطي بيانات جهاز الإحصاء حول البطالة بين النساء المشاركات في القوى العاملة والتي بلغت حوالي %40 مقابل %20 بين الرجال للعام 2022، مؤشراً واضحاً على مستوى التهميش الذي تعانيه النساء في الحصول على وظائف.
وعلى الرغم من ظروف الحرب القائمة، تواجه الكثير من الأرامل سلطوية ذكورية شرسة، استغلالاً لعجزهن عن المواجهة. حيث اشتكت العديد منهن من تغول أقرباء الزوج (الحمى- الجدة- الأعمام) طمعاً في الاستفادة من المساعدات العينية والنقدية التي تتلقاهن كرعاية وكفالة للأيتام.
تهديد بالطرد
وقالت أمية ماهر (*) وهي أرملة فقدت زوجها خلال بحثه عن الدقيق لإطعام أطفاله في مارس الماضي، إنها مهددة بالطرد من مسكن أسرة زوجها هي وأطفالها الاثنين، نتيجة تغول الجد وفرضه قيوداً على الحركة، ومنعها من استلام المساعدات النقدية التي تقدمها جمعيات ومؤسسات ترعى أيتام الحرب.
وأوضحت أمية (29 عاماً) "أنا أعيش في شمال غزة في شقة داخل بناية يملكها والد زوجي، أما أبي وأمي وأشقائي فهم يقيمون الآن في مخيم للنزوح بجنوب القطاع، وأواجه تهديدا بالطرد من المسكن بسبب رفضي منح قيمة كفالة أيتام طفلاي إلى جدهم (..) هذان الصغيران بحاجة ماسة إلى مأكل وملبس ومتطلبات متزايدة فمن سيقوم بالإنفاق عليهما ويغطي احتياجاتهما، إذا استحوذ الجد على قيمة الكفالة كاملةً؟".
ولا يوجد في محافظتي غزة والشمال مراكز لإيواء الايتام والأرامل أسوة بجنوب القطاع الذي يفصله جيش الاحتلال بحاجز عسكري منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ويحشر فيه نحو 2 مليون نسمة في ظروف إنسانية صعبة ومعقدة.
وقال محمود كلخ مدير مخيم للأيتام أنشأ في جنوب القطاع قبل أشهر: "المخيم يضم أكثر من 1000 يتيم و170 أرملة فقدت زوجها خلال الحرب، نحاول تلبية احتياجاتهم وتزويدهم بالماء والطعام"، مشيراً إلى أن السيدات الأرامل يعانين من تحمل مسؤوليات كبيرة في ظل الحرب المستمرة.
وأفضت نتائج بحثية قادتها منظمات حقوقية دولية، إلى أن "العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك الاستغلال الجنسي والإتجار، يتزايد أثناء الحرب وفي حالات ما بعد الصراع، بسبب الصعوبات الاقتصادية والنزوح وانهيار المجتمعات المحلية والهياكل الاجتماعية".
وقالت سانام أندرليني، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشبكة عمل المجتمع المدني الدولي، وهي منظمة معنية بالمرأة والسلام والأمن: "أول ما يحدث هو أن مستويات الفقر تجبر النساء على القيام بأعمال محفوفة بالمخاطر، مثل العمل في مجال الجنس، كما أن تداعيات الحرب تجبر الأطفال على العمل في وقت مبكر". وأضافت أندرليني "بالإضافة إلى ذلك، سنشهد أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في حالات الزواج المبكر للفتيات".
غياب الحاضنة
في الأثناء، أوضحت كريمة حسين، المختصة الاجتماعية والأسرية، أن الأرامل في قطاع غزة وفي ظل أجواء الحرب الضارية، تواجه ضغوطًا نفسية واجتماعية كبيرة ويجدن أنفسهن أمام خيارات صعبة للغاية في ظل عدم وجود بيئة حاضنة سواء على المستوى الاجتماعي أو القانوني. لكنها قالت إنه من المهم أن يحافظن على رباطة جأشهن وقوتهن وصلابتهن النفسية حتى يتجاوزن الأزمة.
وأكدت المختصة حسين، على ضرورة أن تبني النساء الأرامل شبكات دعم اجتماعية من خلال التواصل مع العائلات الأخرى أو الأصدقاء، على اعتبار أن الدعم المتبادل يمكن أن يكون سندًا لهن في مواجهة الأيام الصعبة، مشددة على ضرورة تعزيز مهاراتهن الذاتية للبحث عن مصادر دخل، حتى وإن كانت بسيطة، مثل تعلم مهارات يدوية أو أعمال حرفية يمكن تسويقها عبر المجتمعات المحلية.
أما فيما يتعلق بالأطفال، فدعت إلى العمل على تعزيز روح الأمل والتفاؤل في نفوسهم، وإشراكهم في أي أنشطة ترفيهية أو تعليمية تساعدهم على نسيان آلامهم ولو قليلاً. كما تحث على ضرورة التوجه إلى المراكز الإنسانية للحصول على الدعم النفسي والاجتماعي، فالحفاظ على استقرار الأسرة هو المفتاح لصناعة مستقبل أفضل لهم، رغم كل المعاناة.
(*) أسماء مستعارة