يجلس السائق الفلسطيني محمود سعدي (42 عاماً)، خلف مقود سيارته المتهالكة، من نوع مرسيدس، محاولاً بكدٍ وتعبٍ تحصيل قوت يوم أسرته المكونة من سبعة أبناء، أكبرهم في السابعة عشرة من عمره.
السائق سعدي القاطن في شمال قطاع غزة، يعمل في هذه المهنة منذ سنوات، ولكن الحرب المستمرة منذ قرابة العام على القطاع، قلبت حياته رأساً على عقب. فقد توقف قسراً عن العمل بشكل كامل، وساءت الظروف المادية لأسرته بشكل كبير. وأصبح يعتمد اعتماداً رئيسياً في الإنفاق على أسرته، على القليل من المساعدات الإنسانية التي تصلهم عبر المنظمات الدولية، وهي بالكاد تكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية.
لذلك قرر السائق المجازفة بالعودة للعمل تحت ظلال الحرب، حرصاً منه على تغطية احتياجات الأسرة المتزايدة في ظل الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية والخضار على قلتها.
غير أنه وفي ظل انعدام الوقود التقليدي نتيجة الحصار والحرب ومنع إدخاله عبر المعابر التجارية الواصلة بين قطاع غزة وإسرائيل، اضطر السائق سعدي للبحث عن بدائل لإبقاء سيارته قيد التشغيل.
في البداية، لجأ إلى تشغيلها باستخدام الزيت النباتي، وهو حل مؤقت ولكنه غير فعال بشكل كبير، إذ يستهلك الزيت بسرعة كبيرة كما قال، ويزيد من تآكل محرك السيارة، فضلاً عن أنه يخرج عوادم تتسبب له وللركاب والمارة أيضاً بسعال شديد ويتوقع أنه على المدى البعيد يخلق أزمات صحية للسكان، لكنه قال "هذا شر لابد منه".
بعد نحو شهر من استهلاك الزيت النباتي في تشغيل محرك السيارة، بدأ يعتمد السائق سعدي على السولار المصنع محلياً، وهو ناتج عن حرق المخلفات البلاستيكية وتصفيتها واستخراج السوائل منها واستخدامها كوقود بديل. يدرك السائق إدراكاً تاماً أن هذه البدائل ليست مثالية؛ إذ أنها تؤثر سلباً على أداء السيارة وتجعلها أكثر عرضة للأعطال المتكررة، لكنه يشير بيده ويقول: "ما باليد حيلة".
حال سعدي ليس استثنائياً، بل هو جزء من واقع يعيشه العشرات من سائقي الأجرة في شمالي قطاع غزة. حيث يعاني هؤلاء السائقون من إنفاق مبالغ كبيرة لتشغيل مركباتهم، إذ يضطر سعدي لإنفاق ما لا يقل عن 100 دولار يومياً على الوقود البديل. ومع ارتفاع تكاليف الحياة اليومية نتيجة الغلاء الفاحش وشح المواد الغذائية، وبالكاد يستطيع أن يغطي مصاريف أسرته من الإيرادات اليومية، والتي في أفضل حالاتها تغطي المصروفات ويحقق فائضاً يسيراً لا يتجاوز 20 دولاراً فقط، حسبما قال.
فيما يلي لمحة عن دخله ومصاريفه الشهرية:
وعجز السائق سعدي عن استعراض قيمة مصروفاته أسرته الشهرية، مؤكداً أنه يلجأ لأجل تغطية العجز المالي، إلى بيع طرد المساعدة الغذائي، لأجل توفير سيولة نقدية تمكنه من شراء احتياجات الأسرة.
وقال: "الدواء شحيح وزوجتي تعاني آلاماً في العظام واضطر لشراء علاج باستمرار لها بأسعار مضاعفة، فضلا عن توفير مراهم لترميم التشوه الذي أصاب وجه طفلتي نتيجة إحدى شظايا القصف التي طالت وجهها، وكذلك احتياجات الأسرة اليومية من الماء اللازم للغسيل والاستحمام، فضلا عن المياه المحلاة اللازمة للشرب، إلى جانب الخضار التي لا يقل متوسط ثمن الكيلو الواحد عن 100 دولار، ناهيك عن علب البقوليات لاسيما اللحوم المعلبة التي يتجاوز أحياناً ثمن الواحدة منها عشرة دولارات".
يعتلي وجنتي السائق مسحة حزن عميقة على ما جلبته الحرب من مأسي للسكان المدنيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، ويعجزون عن توفير أدنى متطلبات الحياة اليومية.
وإذا كان هذا السائق يتدبر قوت يومه، فإن هناك الآلاف من السكان يعجزون عن توفيره بسبب تضخم نسبتي الفقر والبطالة على نحو غير مسبوق. لاسيما أن أكثر من 90% من السكان باتوا يعتمدون اعتماداً رئيسياً على المساعدات الإنسانية.
قبل الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر الماضي، كان هناك آلاف من سائقي الأجرة في قطاع غزة ومنهم "سعدي" يعتمدون على عملهم لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم وبالكاد كانوا يستطيعون توفيرها. غير آن الوضع الآن أصبح أكثر تعقيداً، لاسيما أن الحرب دمرت غالبية الطرقات والبنى التحتية، وأثرت بشكل كبير على حركة الناس، مما قلل من الطلب على سيارات الأجرة، حيث اعتماد البعض ركوب العربات التي تجرها الحمير والأحصنة.
إضافة إلى أن الغالبية العظمى من السكان أصبحوا مصنفين كفقراء بحسب خبراء الاقتصاد، لاسيما في ظل انعدام فرص العمل وتقليص رواتب الموظفين، عدا عن نسب الفوائد المتزايدة التي يفرضها الصرافون بمقابل صرف رواتب الموظفين بنسبة تتجاوز 20% من قيمة المبلغ، استغلالاً لتعطل عمل البنوك، ناهيك عن تدمير كافة مقومات الاقتصاد الفلسطيني، لاسيما المصانع والشركات والورش الحرفية، والمحال التجارية وحتى البقالات.
إلى جانب ذلك كله، فإن ارتفاع تكاليف الوقود البديل، وشح المياه، والاعتماد على المعلبات والبقوليات نتيجة لانعدام الغذاء الطازج، جعل من المستحيل تقريباً على هؤلاء السائقين توفير احتياجات أسرهم في ظل الوضع القائم.
إجراءات لتحسين ظروف السكان تحت الحرب:
أمام هذا الواقع رأى الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، أنه من الواجب على المجتمع الدولي اتخاذ سلسلة من التدابير لأجل تحسين ظروف السكان المدنيين الذين يعيشون تحت ظلال الحرب بمختلف فئاتهم. وجاء في مقمة تلك التدابير:
أولاً: رفع الحصار والسماح بإدخال الوقود والمساعدات الإنسانية:
يقول الباحث إسماعيل إن تحسين أوضاع السكان عموماً بما فيهم السائقين وغيرهم، يتطلب رفع الحصار المفروض على القطاع، مما يسمح بإدخال الوقود التقليدي والمساعدات الإنسانية بشكل أكبر، فهذه الخطوة ضرورية لتخفيف العبء المالي الكبير عن كاهل الأسر، ولتوفير حياة كريمة لهم.
ثانياً: دعم دولي موجه بشكل مباشر للأسر
أكد الباحث على ضرورة أن يقوم المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بتوفير دعم مالي مباشر للأسر المتضررة، مما يساعدهم على تغطية تكاليف الحياة اليومية دون الحاجة إلى الاعتماد الكلي على دخلهم المتدهور، مطالباً أن تنحو المنظمات الدولية نحو، إجراءات منظمة "اليونسف" التي قدمت مساعدات نقدية عاجلة بقيمة ألف شيكل لآلاف الأسر التي تعيش في شمال غزة.
ثالثاً: تطوير بدائل مستدامة للطاقة وتوفير الوقود
أشار الباحث إسماعيل إلى أنه من الممكن أن تقدم المنظمات الدولية والإنسانية العاملة على الأرض، على تنفيذ مشاريع طاقة متجددة، مثل الألواح الشمسية، كبديل لتشغيل المنازل، مما يقلل من عبء الإنفاق على الحطب اللازم للطبخ والذي يستخدمه السكان تحت وطأة انعدام غاز الطهي. فضلاً عن أهمية توفير الوقود الذي يساعد في تشغيل المركبات، ويقلل من الاعتماد على الوقود البديل المكلف وغير المستدام.
رابعاً: إصلاح البنية التحتية
ورأى الباحث الاقتصادي أن تحسين الطرق والبنية التحتية في غزة سيساعد السائقين على العمل بكفاءة أكبر، مما ينعكس على قدرتهم على زيادة دخلهم اليومي.
خامساً: دعم نفسي واجتماعي
قال الباحث إسماعيل، يجب توفير برامج دعم نفسي واجتماعي للسكان عموماً بما فيهم السائقين وعائلاتهم لمساعدتهم على التكيف مع الظروف الصعبة، وتقديم دورات تدريبية تساعدهم على إيجاد مصادر دخل بديلة إذا استمرت الأزمة لوقت أطول، وبخاصة في ظل غياب أفق وقف إطلاق النار.
يشير الباحث الاقتصادي إلى أن العجز المالي الذي يعانيه السائق "سعدي" وغيره العشرات من السائقين في غزة، يجسد معاناة أكثر من اثني مليون إنسان يعيشون تحت وطأة الحرب والحصار، منذ قرابة العام، وقصصهم اليومية هي بمثابة دعوة للعالم للنظر في معاناتهم والعمل على إيجاد حلول عملية وفعالة تخفف من أعباء حياتهم اليومية وتجنيبهم ويلات الحرب والنزوح المستمر.
سيارة أجرة