ترفع السيدة الفلسطينية ولاء عبد الهادي قدميها بخفةٍ أثناء انتقالها على رمال مُخيم الإيواء المُقام غرب مدينةِ خانيونس جنوب قطاع غزة، تجنباً لاحتراقهما تحت وَقدة شمس ظهيرة يونيو الحالي.
ومع ذلك لا تُفلح السيدة عبد الهادي (33 عاماً) من تجاوز الطفح الجلدي الذي يُشوّه أطرافها الأربعة، ورغم الألم الذي لم تَعد تجدي معه المسكنات والمراهم نفعاً، تضطر لممارسة أعبائها اليومية من طهي وغسل ملابس وجلي للأوعية وغيرها، في بيئة نزوح تنعدم فيها مقومات الحياة الآدمية، وتتسبب لها ولمئات النساء الأخريات من النازحات أضرار صحية وجسدية ونفسية بالغة، وبخاصة مع وجود الاحتباس الحراري كأحد أوجه التغيرات المناخية ذات التأثير المباشر على السكان.
وتضطر هذه السيدة كما تقول، لأن تنتقل بأنشطتها اليومية بحثاً وراء الظلّ، إذ لا تسعفها الخيمة التي تفيض حرارةً من ممارسة أعمالها اليومية تحت سقفها، فتقوم بتوزيع الأدوار خارج الخيمة منذ ساعات الصبح إلى حلول المساء، وتنقل معها أوعية الغسيل والطهي من زاوية إلى أخرى بعد تحري الظِلّ.
مشكلات ليست في الحسبان
ونزح نحو ثلاثة أضعاف سكان غزة -( مليون و900 ألف نازح)- جرّاء الحرب الإسرائيلية الدائرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، فيما يقطن معظمهم في غرفٍ من الصفيح أو خيامٍ مصنوعة من البلاستيك والنايلون؛ الأمر الذي يتسبب لهم بمشكلاتٍ لم تكن في الحسبان، فيما تظهر آثار هذا التغيُّر المناخي بقوةٍ أكبر على النساء والأطفال تحديدًا.
وربما لم يخطر على الذهن من قبل أن يلقى شخص حتفه نتيجة الحرّ؛ لكن في غزة لقي طفلان لعائلتين نازحتين جنوب قطاع غزة مصرعهما، نتيجة موجة حرٍّ أصابت القطاع نهاية أبريل الماضي، بحسب وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي أفادت بأنَّ النازحين في غزة لا يحصلون إلا على متوسط لتر واحد من المياه يوميًا مقابل حدّ أدنى 15 لترًا، وفق المعايير الدولية.
فيما أشار الدكتور آرون بيرنشتاين، مدير مركز المناخ والصحة والبيئة العالمية في جامعة هارفارد، إلى أنّ الحرارة الشديدة قد تؤدي إلى الوفاة لدى الأطفال وعرّف عنها باسم "الصدمات المناخية".
في قطاع غزة، أصبح 90% من أصل 1.10 مليون أنثى بما يُشكّل نسبة 49.3% من السكان، ومنهن حوالي (546 ألفًا) أنثى في سنّ الإنجاب (15- 49) سنة، مهجرات نازحات عن بيوتهن يعشن في ظروف غير إنسانية وغير صحية وأوضاع غاية في الصعوبة.
تقلّبات هرمونية
رجاء العايدي (29 عامًا) سيدة متزوجة وهي واحدة من هؤلاء النساء اللواتي تجرعن مرارة النزوح، وقد عرِفت بحملها بجنينها الثالث خلال الشهر الأول من الحرب، وأمضت شهور حملها الطويلة تحت وطأة القصف والقذائف الإسرائيلية والتنقل والنزوح من مكانٍ إلى آخر، إلى أن وصل بها الحال للاستقرارِ في خيمةٍ بلاستيكية شديدة الحرارة نهارًا والبرودة ليلًا في منطقة كف ميراج الشرقي بين رفح وخانيونس جنوب قطاع غزة.
تقول العايدي: "باغتتني آلام الولادة في غيرِ موعدها وظلّت تراودني من حينٍ إلى آخر، حتى حدث ما لم أتخيله، لقد اضطر الأطباء لإخضاعي لعملية لإنقاذ حياة الجنين، بعدما حدثت آلام ولادة فعلية ولكنها مُبكرة في الشهر الثامن من الحمل، فيما بقيّ طفلي في حضانة الخدج".
مرّ ما يزيد عن أسبوعين على ولادة العايدي لطفلها؛ لكنها لم تزل حتى اليوم لا تستطيع حمله أو إحضاره حيثُ هي، إذ يستوفي الطفل نموه في المستشفى وقد خُلقِ يعاني صغر حجم رئتيه ومشكلاتٍ أخرى يقول الأطباء، وفق الأم، إنّها لا تظهر بوضوح إلا بعد مرور عامين من عمره.
في الإطار ذاته، أكّدت أخصائية النساء والتوليد بقطاع غزة، الطبيبة هيا حجازي، على أنّ النساء في خيام النزوح بغزة يعشن ظروفًا إنسانية وصحية غاية في الخطورة أثرت بشكلٍ أو بآخر على صحتهن الإنجابية.
وتتسبب ظروف الاحتباس الحراري والارتفاع العالي لدرجات الحرارة في خيام النزوح، في تغييرات هرمونية لدى النساء، وفقًا لحجازي، منها ازدياد معدّل التبويض، وارتفاع معدّل الطمث، أما الطقس البارد فقد يتسبب بتباعد لفترات الطمث لديهن.
وتجتمع على النساء في ظل الظروف المعيشة البائسة داخل خيام النزوح بقطاع غزة، كارثة ما يعرف بـ"الصدمات المناخية"، حيث ترتفع معدّلات الحرارة نهارًا وتنخفض ليلًا؛ الأمر الذي يتسبب بمشكلات صحيّة لدى السيدات أهمها انقطاع الدورة الشهرية، وتسلخات جلدية والولاة المبكرة للحوامل منهن.
وقالت حجازي إنّ هناك فتيات صغيرات بلغن مبكرًا بسبب ارتفاع درجات الحرارة التي عملت على تغيرات هرمونية لديهن وارتفاع في معدل الإستروجين، وهناك أيضًا مشاكل أخرى أهمها حالات تكيس المبايض وأيضًا الالتهابات المهبلية التي ارتبطت بمشكلة ارتفاع درجات الحرارة وشُح المياه وملوحتها مما أدى إلى صعوبة الحفاظ على مستوى عالٍ من النظافة الشخصية.
وتتسبب المياه شديدة الملوحة وغير الصحية التي تصحب ظروف المعيشة في خيام النزوح، على صحة المرأة لا سيما الوسط القاعدي والحامضي في المنطقة التناسلية؛ الأمر الذي يزيد من معدّل حدوث الالتهابات خاصة الفطرية منها، وازدياد معدّل حب الشباب ومعدّل التعب والإجهاد لدى الإناث عمومًا.
آثار نفسية وعصبية
وقد تكون مشكلات الصحة الإنجابية هي واحدة من المشكلات الخطيرة على صحة المرأة، لكنّها ليست آخرها، إذ يُحدِّد الأطباء الأمراض النفسية والعقلية كإحدى المشاكل الكبرى لارتفاع درجة الحرارة التي يُعاني منها الناس.
كما أكّدت الدراسات العلمية التي أجريت حول العالم الأثر السلبي لارتفاع درجات الحرارة على الصحة العصبية، وأظهرت الإحصاءات زيادة بنسبة 10% في عدد الزيارات للأطباء النفسيين في قسم الطوارئ خلال فترات الارتفاع الشديد في درجات الحرارة.
أما سامية المجدوب التي تقطن في خيمة مصنوعة من النايلون نصبتها على الساحل في منطقة العلم غرب مدينة رفح، قالت إنّ الأيام الساخنة وارتفاع حرارة الخيمة تسببت لها بمشكلات نفسية أهمها الاكتئاب.
وتتجاوز درجة الحرارة داخل الخيمة نهارًا (°50)، وفقًا للمجدوب، فيما لا يوجد فتحات للتهوية؛ الأمر الذي يجعل المكان غير صحيًّا البتة، وقالت إنّ النهار يمضي وهي تهرب من أشعة الشمس الحارقة لتتمكن من أداء مهام أسرتها اليومية بأريحية.
بدوره، قال الدكتور عايش سمور استشاري الأمراض النفسية والعقلية بغزة، إنَّ موجات الحرّ وارتفاع حرارة الطقس خلال فصل الصيف لا سيما على النساء النازحات في الخيام التي تُشبه الدفيئات، يتسبب في جُملة من الأمراض النفسية والعصبية.
ونبّه إلى أن أعداد مرتادي العيادات النفسية داخل النقاط الطبيّة تضاعف بشكلٍ مهول داخل قطاع غزة، إذ يُعاني معظمهم من اضطرابات على الصحة السيكولوجية كضعف الانتباه والتركيز، والتوتر والاكتئاب والقلق، إضافة إلى ازدياد نوبات الصرع لدى الأشخاص الذين يُعانون منها، وارتفاع نسبة نوبات أمراض مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب.
على نحوٍ ليس ببعيد، أصابت حرارة الطقس ديانا أبو كويك التي نزحت إلى منطقة ميناء القرارة في مواصي خانيونس، بحروقٍ بالغة في بشرتها وقالت إنها تنظر للمرآة فلا تعرف نفسها من حجم الاختلاف الحاصل عليها في اللون والنحول والمرض.
فيما تعاني معظم السيدات القاطنات في خيام النزوح جنوب القطاع، من أمراضٍ جلدية واضحة أهمها الحساسية وحروق الوجه والكفين، وظهور الثآليل، والزوائد الجلدية الأخرى، في ظلّ غلاء باهظ لعلاجات الحروق والبشرة في حال توفرها؛ الأمر الذي يُضاعف معاناتهن ويزيدها قسوة وشِدة تحت وقع النزوح وويلات الحرب المتكاثرة.
الحقوق والحصانة القانونية
وعلى ضوء التأثيرات السلبية للظروف المناخية خصوصا على حياة النساء النازحات في خيام الإيواء، حاولنا التعرف أكثر عن ماهية حقوق النساء في الحماية جرّاء الحرب. وهنا قال مدير الوحدة القانونية بالمركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات المحامي يونس الطهراوي، إنّ القانون الدولي الإنساني منح نوعين من الحصانة والحماية للنساء والأطفال، حماية عامة بصفتهم جزءً من الأشخاص المدنيين الذين يجب تجنيبهم أضرار الحرب، وحماية خاصة تتناسب والسمات الخاصة التي تميزهم عن غيرهم من المدنيين.
وبحسب إعلان الجمعية العامة في قرار رقم (3318) رقم (4) المؤرخ في 16 مايو من عام 1974 بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة، فإنّه يجب على جميع الدول المشتركة في منازعات مسلحة أن تبذل كل ما في وسعها لتجنيب النساء والأطفال ويلات الحرب واتخاذ تدابير لمنع العنف والمعاملة المهينة.
إلى جانب ذلك، اتخذ مجلس الأمن قرار رقم (1325) الصادر في 31 تشرين الأول من عام 2000، حول "المرأة والسلام والأمن"، الذي يتضمن في محور "الحماية"، تحسين أمن الفتيات والنساء، وتحسين صحتهم الجسدية والعقلية وأمنهم الاقتصادي وحياتهم بشكلٍ عام.
وقال المحامي الطهراوي إنّ ما تتعرض له النساء النازحات في قطاع غزة من انتهاكات جسيمة لحقوق المرأة في خيام النزوح، "يُعد جريمة حرب، وذلك استنادًا إلى القانون الدولي الإنساني حيث عرفت ميثاق محكمة نورنبرغ العسكرية الدولية عام 1945 حسب المادة (6)، بأنّه انتهاك قوانين الحرب وأعرافها بما في ذلك القتل أو المعاملة السيئة أو الترحيل غرض آخر للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة وقتل الرهائن وسلب الممتلكات العامة أو الخاصّة وتدمير المدن أو القرى الذي لا تبرره الضرورات العسكرية".
كما أشار إلى أنَّ المادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نصّت على أن جرائم الحرب هي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس/ آب 1949، وأي فعل من الأفعال التالية ضدّ الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة.
وأوضح الطهراوي أنّ إسرائيل كدولة احتلال كانت وما زالت تُمارس الانتهاكات الواضحة لكل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، مبينًا أنّها تُشكِّل بذلك تجاوز صارخ وضرب في عرض الحائط للإدارة الدولية التي تدعو وبشكلٍ دائم إلى وقف الحرب وحماية المدنيين لا سيما النساء والأطفال.
وتتمتع المرأة بموجب القانون الدولي الإنساني، وفقًا للطهراوي، بالحماية والمساعدة، بوصفها جزءًا من السكان المدنيين حيث يدفع النساء والأطفال الثمن الأكبر في الحروب بتعرضهم إلى كافة أشكال القتل والإصابة والامتهان والنزوح وعدم توفر المساعدات الإنسانية والغذائية والصحية والمياه؛ الأمر الذي يُفقدهم سبل البقاء الأساسية والرعاية الصحية ويتعرضون لكل الانتهاكات التي تحط من الكرامة الإنسانية.