لم يكن يدر في خلد الفتاة سمية السويركي في ربيعها التاسع عشر، قط، أن حلمها بمواصلة تعليمها الجامعي في تخصص علم النفس، سيتوارى في ظلام الحرب. وأنها ستصبح وحيدة من دون أشقاءها الثلاثة الذين كانوا يصنعون بهجةً يوميةً داخل مسكنهم الواقع في حي النصر غرب مدينة غزة.
كانت تعيش "سمية" تلك الفتاة الحالمة، حياةً هادئةً مع عائلتها في الطابق السادس من بناية سكنية مؤلفة من عدة طبقات. كانت العائلة مكونة من والدها، والدتها، وأشقائها الثلاثة: تالا (12 عامًا)، سعد (18 عامًا)، ومحمد (5 سنوات). لكن في السابع من أكتوبر الماضي، بدأت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مما غيّر حياتهم إلى الأبد.
مع بدء القصف المكثف الذي طال كل محافظة ومخيم وحي وشارع من كل اتجاه، أصبحت الحياة اليومية مليئة بالخوف والرعب بالنسبة للسكان ومنهم سمية وأسرتها. وعندما ألقى الاحتلال منشورات تطالب بإخلاء محافظتي غزة والشمال في 13 من أكتوبر، قررت عائلة سمية البقاء في منزلهم، رافضين النزوح إلى مكان مجهول وغير آمن. لم يكن لديهم أي فكرة إلى أين يذهبون أو كيف يتركون بيتهم الذي لطالما كان ملاذهم.
إنه قرار مكلف جداً، أن تقرر كشخص مدني البقاء وسط ساحة معركة، لذا كانت الأيام تمر بصعوبة بالغة وبخاصة مع توالي الأخبار المحزنة عن الشهداء والجرحى والدمار المحيط من جميع الاتجاهات. لقد واجهت الأسرة الأزمات المتزايدة بدءًا بالانقطاع الكامل للتيار الكهربائي، ثم انقطاع المياه، فضلاً عن فرض حصار مشدد، وجل ما كان بإمكان الأسرة فعله هو محاولة البقاء على قيد الحياة.
في أواخر نوفمبر، اشتدت الغارات الجوية في محيط مسكن سمية. اضطرت أسرتها للنزول إلى الطابق الأول هربًا من الدخان الكثيف. علموا لاحقًا أن القصف استهدف مبنى أمني قريب جداً، فافترضت أن المنطقة لن تتعرض لهجمات أخرى. لكن الخطر لم ينتهِ هنا.
انتقلت العائلة إلى منزل الجدة القريب من عيادة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في حي النصر، خشية من تدمير البناية التي يقطنونها أو حصول استهداف في محيطها. على الرغم من ذلك، استمرت الهجمات الليلية في منطقة النزوح. ومع اقتراب دبابات الاحتلال من بيت الجدة، اضطرت أسرة سمية للانتقال مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى بيت خالتها الواقع في منطقة الصحابة وسط مدينة غزة.
مع إعلان الهدنة في 24 نوفمبر، عادت أسرة سمية إلى منزل الجدة ليجدوه مهدومًا. فقرروا العودة إلى مسكنهم، على أمل أن تستمر الهدنة. ولكن في 1 ديسمبر، استفاقت الأسرة على صوت قصف مدو إيذاناً بوقف الهدنة، وقد أصاب القصف مسكنهم.
تقول سمية، كنا قد اتفقنا إنه في حال لم تتجدد الهدنة، سنقوم بالنزوح مجدداً عن المسكن، إلا أننا لم نستطع الهروب فطائرة الكواد كابتر بدأت بإطلاق النار بشكل مكثف وقريب جداً.
وأضافت أنه في اليوم التالي (أي في الثاني من ديسمبر) وتحديدا عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، استهدفت غارة جوية إسرائيلية المنزل مباشرة أثناء نومنا فقد كنا نائمين بالقرب من باب الشقة ظناً أنه أكثر الأماكن في بيتنا أمانًا إلا أنه هو المكان الذي استهدف بالصاروخ، مما أدى إلى استشهاد اخوتي الثلاثة فيما سقط والدي من الطابق السادس إلى الطابق الأول، بينما بقيت أنا وأمي مصابتين في الطابق السادس، حيث فقدت أمي ساقها اليمنى، وكانت تنزف".
عند حلول الصباح الساعة السادسة تقريباُ جاء الناس لإنقاذ من تبقى من أفراد الأسرة، حيث استسهل عليهم نقل الأب الذي كان ملقى خارج البناية، فيما أنه حين صعدوا إلى البناية بدأت طائرة مسيرة تطلق النيران بشدة، فقاموا بنقل سمية من الأرض إلى الفرشة، وكانت قد أصيبت في ساقيها إحداها كانت بحاجة إلى البتر الفوري، أما الأخرى فكانت مصابة بالشظايا.
اضطر السكان كما قالت سمية إلى مغادرة البناية تحت وطأة إطلاق النار، ووعدوها بإرسال الإسعاف لإنقاذها هي وأمها، فيما قالت إنها علمت لاحقا أن الاحتلال قصف سيارة الإسعاف في طريقها للقدوم إليّ.
بقيت الفتاة وأمها في الشقة المستهدفة يصارعن البقاء على قيد الحياة، وقالت: "لم نملك أي شعور سوى أننا كنا نتمنى أن نستشهد ونلتحق في إخوتي الباقين (..) لم نتحدث كثيراً فقد كانت أمي تتألم عندما تتحدث وكانت كل واحدة منا مشغولة في آلام النزيف الذي تعاني منه".
وتابعت سرد قصتها الموجعة: "لم يكن لدينا ماء أو طعام، أكلت قطعة حلوى أطفال (مصاصة) فقط. وبعد سبع أيام وتحديدا في الثامن من ديسمبر، رأيت على وجه أمي ذبابة فقلت لها أمي أبعديها عنك فلم ترد أعدت عليها الطلب، فلم ترد بدأ صوت شهيقها يعلو حتى انقطع واستشهدت هي الأخرى، صرخت بأعلى صوتي من القهر وانهرت من البكاء بعدها".
لقد استشهاد والدة سمية خلال ساعات النهار، لكنها لم تستطيع تحديد أي وقت بالضبط، فيما قامت طائرات الاحتلال خلال ساعات الليل من نفس اليوم بقصف البناية بثلاثة صواريخ، "لقد كانت العمارة مقسومة من المنتصف إثر القصف، والصواريخ سقطت في تلك الفجوة وأنا على الجانب الأيمن منها أرى كل شيء. لم أخف لقد كنت في اللاشعور، لا أريد سوى أن أموت وألحق بعائلتي"، حسبما قالت.
في صباح اليوم التالي، اقتربت طائرة إسرائيلية صغيرة من سمية وهي ملقاة على الفرشة داخل الشقة التي تشهد دماراً واسعاً، لكن الفتاة تظاهرت بالموت لتجنب إطلاق النار. ومكثت حوالي 12 يوما لم يغمض لها جفن ولا تعرف سبباً لذلك.
في ذلك اليوم، شعرت الفتاة الوحيدة بالعطش الشديد، فأصبحت تدعو الله أن تسقط السماء مطراً. وقالت مستذكرة المشهد: "بالفعل استجاب الله لدعائي وتساقط المطر إلا أنني لم أستطع الوصول إليه، فدعوت الله بشدة أن يدخل المطر عليّ، دقائق حتى بدأت المياه تتسرب من السقف حتى تبللت الفرشة الاسفنجية، وبدأت أعصر فيها وأشرب حتى ارتويت بعض الشيء".
في أحد أيام حصارها وحيدةً على قيد الحياة بين الجثث، شعرت سمية بالعطش مجدداً، فبدأت تصرخ "أريد مياه"، وهي تسمع صوت الدبابات جلية أسفل البناية، حينها صرخ جنديا عبر الميكرفون، وبدأ يسأل: "من يصرخ يريد مياه؟". تقول: "لقد شعرت بالرعب والخوف الشديد فلم اجب، فاستسلمت واضطررت لشرب علبة دواء سائلة كانت قريبة مني ولا أعرف ماهيتها، إلا أنني كنت بحاجة شديدة للماء كي أرطب حلقي الذي أصابه الجفاف".
في الحادي والعشرين من الشهر ذاته، انسحبت الآليات الإسرائيلية من محيط البناية التي تقيم فيها سمية، فسارع الجيران لإنقاذها. وما إن بدأوا يسحبوها حتى بدأت المسيرة الإسرائيلية بإطلاق النار، فطالبتهم بالمغادرة خشية على حياتهم والاكتفاء فقط بإحضار الماء لها، إلا أنهم رفضوا بشدة، وانتظروا حتى تلاشى الخطر وقاموا بربطها بالفرشة، وبصعوبة بالغة قاموا بإنزالها لأن سلم البناية كان محطما. جرى نقل سمية إلى مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة-قبل إخراجه تماما عن الخدمة-حيث التقت بوالدها المصاب هناك يرقد على السرير ويتلقى العلاج.
رغم معاناتها وفقدانها لعائلتها، تظل سمية متمسكة بحبها لغزة، وتصميمها على تقديم الدعم النفسي للسكان المكلومين والواقعين تحت ظلال الحرب للشهر الثامن على التوالي. لكنها تنتظر فرصة للسفر لعلاج ساقها الأخرى، وبخاصة بعد خروج معظم المشافي عن العمل وتدهور الخدمات الصحية بفعل ضخامة اعداد الشهداء والمصابين. قصة الفتاة سمية ليست فقط قصة عن الألم والمعاناة، بل هي أيضًا قصة عن الصمود والقوة والأمل الذي لا ينقطع، حتى في أحلك الظروف.