ما الذي حل بنساء غزة خلال الحرب؟

ما الذي حل بنساء غزة خلال الحرب؟

ارتقت الفلسطينية سماهر (45 عاماً) في منتصف يوم غائمٍ عندما كانت عائدة من زيارة شقيقتها في مشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة؛ أصابتها شظايا صاروخ استهدف سيارة مدنية بينما كانت تمر بالقرب منها. وما هي إلا ثوان معدودة حتى فارقت الحياة. كان وجهها شديد الاحمرار، وإلى جوار جسدها حقيبة يد تحتوي على بطاقتها الشخصية وعقاقير ضغط الدم.

لم تكن سماهر مقاتلة في معركة ولم تنتم إلى أي طرف سياسي، وإنما كانت ضحية مثل آلاف النساء اللاتي يدفعن ثمنا باهظا نتيجة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول الماضي ولم تزل.  هي حربٌ ليس لهن فيها ناقة ولا جمل. وجميعهن يدفعن ثمنا واحدا: أرواح تزهق وأطراف تبتر. 

تتنوع قصص ضحايا الحرب من المدنيين الأبرياء، خصوصا النساء، اللاتي يصارعن البقاء في خضم بيئة محاطة بالتحديات بدء بالتعرض للقتل أو الإصابة وإعالة الأسرة وتوفير الاحتياجات الأساسية بما فيها الاصطفاف في طوابير المياه والمساعدات، إلى حد التعرض للعنف أحياناً.

مريم محمد (35 عاماً) نازحة في بيت أقاربها شمال قطاع غزة، أصيبت خلال الحرب الواقعة على القطاع وفقدت زوجها وأطفالها، وهذا الأمر فرض عليها جملة من التحديات والصعوبات داخل المجتمع، إذ كانت مريم تخرج للذهاب إلى المستشفى للمراجعات الطبية ولكن كانت تمقتها نظرات المجتمع بصفتها أرملة في ظل مجتمع غزي محافظ.

تقول محمد: "أن يُمحى من الوجود كل ما هو من صُلبك وتنجو في نهاية المطاف بنصف جسد، بنصف روح، بنصف قلب!" هذا الوضع يؤثر على الناحية الصحية لمريم وعلى سلامتها النفسية حيث تعاني من ضغوطات أبرزها آثار الصدمة.

مريم ليست وحدها بل هناك ما لا يقل عن 3 آلاف امرأة في غزة أصبحن أرامل، الكثير منهن يٌجاهدن لتوفير لقمة عيش لأسرهن، وذلك في ظل غياب الأماكن الآمنة بشكل كافٍ للناجيات.

في قطاع غزة، معاناة النساء في الحروب تتجاوز حدود الإصابات الجسدية والنظرة المجتمعية، حيث تتضمن تجارب مأساوية أثناء عمليات الولادة. ففي ظل ظروف قاسية، يجدن أنفسهن بلا تخدير ودون الرعاية الصحية والتعقيم اللازمين.

في شهادة شخصية، روت سيدة تدعى أماني (*) تجربتها الصعبة حين اضطرت لإجراء عملية ولادة في أحد ممرات مستشفى العودة خلال حصار مدينة غزة وشمالها. بلا احترام لخصوصيتها أو لحالتها الحرجة، تصف: "وُلدت طفلتي وسط دوي الرصاص والقذائف التي كانت تتساقط في كل مكان بالقرب من المستشفى، لم أكن أتوقع البقاء على قيد الحياة، ولكني نجحت في الإنجاب وأنا أسمع صوت الاشتباكات، وبعد الإنجاب ركضت بين الشوارع اسابق قذائف الدبابات الإسرائيلية التي كانت تسقط على بلدة جباليا شمال غزة. كانت هذه اللحظات القليلة قبل دخول جنود الاحتلال إلى المستشفى.   

ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، منذ بدء الحرب على غزة، تظهر البيانات الصحية تحديات كبيرة تواجه النساء الحوامل في القطاع، حيث يُقدَّر عدد النساء الحوامل بحوالي 60 ألف امرأة، وتتم ولادة ما يقارب 180 طفلًا يوميًا. ومن المتوقع أن يعاني حوالي 15% من هؤلاء النساء من مضاعفات خلال الحمل والولادة، حيث يُصعب علاجها بسبب نقص الرعاية الطبية. هذا ينذر بزيادة الولادات ضمن ظروف صحية غير آمنة، مما يشكل انتهاكًا خطيرًا لحقوق النساء ويعرض حياتهن وحياة مواليدهن للخطر. كل هذه الظروف تزيد من حالات الإجهاض والوفيات خلال الولادة.

"أصبت بحروق متوسطة في يدي بعد قصف منزل مجاور لمنزلنا واستشهاد زوجي، لكني لا زلت مضطرة للوقوف في طابور لنقل المياه إلى مركز إيواء في مدرسة فهمي الجرجاوي الموجودة وسط غزة، من أجل رعاية أولادي الأربعة." هذا ما قالته السيدة عبير سالم (*) من شمال قطاع غزة.

تستشهد الباحثة مادلين الحلبي بالقصة السابقة للتأكيد على الأعباء الهائلة التي تتحملها النساء خلال الحروب، بما في ذلك الإصابات التي تعاني منها، مما يؤثر على حياتهن بشكل كبير.

 وقالت الحلبي، "إن نساء قطاع غزة يعانين الأمرين في ظل الحرب التي يشهدها القطاع، إذ لا تقتصر الحروب الأنثوية على استهداف الأجساد فحسب، بل تعمل أيضا على استهداف " تضاريس المجتمع" بما في ذلك العلاقات والبنى والهياكل الاجتماعية في أطرها التقليدية".

وأوضحت أن كل هذه الظروف فرضت على هؤلاء النساء أدوار اجتماعية جديدة في إعالة الأسرة والأبناء، وحمايتهم وتوفير الطعام والغذاء لهم في ظلّ عدم توفرهما، عدا عن الأعمال الشاقة الواقعة على كاهلهن والتي لا تتناسب مع طبيعة أجسادهن الأنثوية وبنيتها، في ظل انعدام جميع مقومات الحياة، مثل تقطيع الأخشاب لإعداد الطعام، أو الوقوف في طوابير طويلة لنقل المياه، بالإضافة إلى المخاطرة العالية ً بحياتهن لتوفير لقمة العيش.

وبحسب المفهوم الشائع مجتمعياً، فإن النساء دائما ما يكن هن المتضررات الأوائل، والمفروض عليهن أن يكنّ متماسكات قدر المستطاع ليحافظن على استقرار الأسرة، وهو أمر من وجهة نظر الباحثة يؤثر على الصحة النفسية للمرأة ويضعها تحت تأثير الضغط النفسي.

وعلى ضوء الحرب التي دخلت شهرها السابع تتقلص أدوار النساء الفلسطينيات اللواتي يتحملن أوزار النزاعات منذ زمن بعيد، وتتضاءل خياراتها وفرصها كلما طال أمد الحرب. إذ تجد المرأة نفسها في وضع صحي ونفسي منهار، إلى جانب وضع اجتماعي واقتصادي متهالك، وجميعها أوضاع تفرض عليها اللجوء إلى خيارات أحلاها مرًا، مثل العمل على صناعة أطباق الحلوى وبيعها في الشوارع العامة والتي قد تعرض حياتها للخطر، لا سيما في مجتمع كمجتمع غزة الذي لا زال يؤمن بأن دور المرأة يقتصر على توليها المهام المنزلية.

"زوجي مريض ويرقد في سريره بفعل إصابته بشظية خلال الحرب أقعدته عن الحركة، ولدي فتاتان في العشرين من العمر، اضطررت للعمل كي لا يتضوروا جوعاً، ورغم ذلك أواجه الكثير من التحدّيات مثل النظرة المجتمعية القاصرة التي تنتقد عملي كبائعة حلوى الغربية وسط سوق يجوبه مئات المواطنين يومياً، في ظل الوضع الأمني الخطير". هذا ما قالته أمينة عبد الله (*) وهي سيدة في العقد الرابع من العمر وتقيم في مدينة غزة.

ورفضت أمينة مغادرة مسكنها في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والنزوح إلى جنوب وادي غزة، استجابة للضغوطات العسكرية الإسرائيلية، وقالت "كان ولا زال لدي قناعة بأن كلمة مناطق آمنة هو مصطلح مضلل، لأنه ليس هناك مكان آمن في قطاع غزة، لذلك كنت أتنقل من محطة إلى أخرى داخل المدينة لكني رفضت النزوح وأسرتي إلى الجنوب".

وكانت قد أجبر الاحتلال الاسرائيلي آلاف النساء والفتيات على النزوح القسري مشيا على الأقدام، وذلك وسط كثافة النيران نحو مناطق جنوب قطاع غزة، الأمر الذي فرض على الكثير منهن جملة من التحديات، وبخاصة أنهن وجدن أنفسهن في وضع جديد يفتقر إلى ظروف الحياة الآدمية.

ووفقًا للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، يُعاني في قطاع غزة ما يقارب 1.10 مليون امرأة، حيث أصبحت أكثر من 90٪ من هؤلاء النساء مهجرات قسرًا من منازلهن ومناطق سكنهن، وذلك وسط ظروف إنسانية غير ملائمة وانعدام أبسط متطلبات المعيشة.

وتغيرت حياة النساء بشكل جذري بفعل النزوح، نتيجة فقدان السيطرة على حياتهن في هذه البيئة الجديدة، التي تجاوزت الحدود الاجتماعية والعائلية، طبقاً لورقة سياسات صادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في يناير الماضي.

وطبقاً لورقة السياسات فأن اكتظاظ المساحات بشكل مفرط وتجاوز الطاقة الاستيعابية للأماكن المخصصة للإقامة، سواء في الشوارع أو المدارس أو منازل الأقارب، وضع النساء تحت ضغط كبير، مما تطلب منهن البقاء في الحجاب طوال الوقت وتقليل كمية الطعام والشراب لتجنب استخدام الحمامات والوقوف في طوابير الانتظار أمام الغرباء.

"لا أعلم إلى متى سيستمر هذا الحال"، تتساءل لينا راضي (*) وهي من سكان شمال غزة، وقد كانت تعتبر نفسها من الأُسر ميسورة الحال ولكن تغيرت كل الأمور مع وقوع الحرب على القطاع المستمرة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، وقد وجدت نفسها تواجه واقعًا صعبًا لم تكن تتخيله من قبل. مع مرور الوقت، وأصبح من الصعب على زوج لينا توفير احتياجات أسرتهما.

عندما تعطل زوجها عن العمل في قطاع المحاماة اضطرت تحت وطأة فقدان مصدر الدخل إلى إقامة بسطة صغيرة أمام البناية المدمرة جزئياً والتي تقطن فيها وسط مدينة غزة. في ساعات الصباح الأولى تصنع شطائر الجبن والزعتر المخصصة للبيع، ثم توزع أدوارها لاحقاً بين إشعال موقد الحطب وطهي الطعام وغسل الملابس والأواني. تقضي يومها كاملاً بلا كد أو ملل، لكن أكثر ما يثير حنقها هو تعرضه للعنف على يدّ زوجها.

وتشير لينا إلى أن زوجها يعاني ضغوطا نفسية كبيرة على أثر فقدانه مكتبه ومصدر الدخل، وهذا ما انعكس بالسلب في التعامل معها وأفراد أسرته. إذ أصبح منفعلاً طوال الوقت. وقالت: "أنا في الحقيقة أكافح من أجل أسرتي، لكن هذا كله لم يشفع لي أمام زوجي الذي أصبح يعنفني قولاً وفعلاً"، مشيرة إلى أنها تحاول صده في كل مرة، لكنها لا تملك خيارات كمغادرة المسكن مثلاً والاتجاه لبيت والدها لأنه تعرض للهدم وأصبحت الأسرة جميعها تعيش في مأوى للنازحين.

 

(*) اسماء مستعارة