من قلب الفوضى والدمار الناجم عن الحرب على قطاع غزة، وتحديداً في اليوم السابع عشر كان محمد عمر (*) من سكان مدينة غزة الذي يعمل في جهاز الدفاع المدني، مشغولاً بإنقاذ الضحايا من تحت أنقاض المباني المهدمة، وبينما هو كذلك اجتاحت صاعقة الحرب حياته. حيث سقط صاروخ بتر قدمه اليسرى، وجعله يسقط بلا حول ولا قوة، مضطرباً ومشوهاً.
بقي محمد (38 عاماَ) على سرير مستشفى الشفاء، يواجه تحديات جديدة. وعندما توقفت الخدمات الطبية، وخرجت المستشفيات عن الخدمة، اضطرته الظروف القاسية للمغادرة والعودة إلى المنزل، الذي نزح إليه وعائلته لاستكمال علاجه هناك.
ليس محمد وحده الذي دفع ضريبة انعدام الخدمات الصحية، بل الآلاف من المصابين الذين تركوا يواجهون مصيرهم بلا أدنى مقومات الرعاية، وبخاصة بعد خروج (32) مستشفى على مستوى قطاع غزة عن الخدمة.
يشير أحد أفراد عائلة محمد المكونة من (6) أفراد، إلى أنه لا يواجه تحديات الإعاقة نفسها فحسب، بل أيضاَ تحديات تتعلق بالرعاية الطبية والدعم الاجتماعي والاقتصادي والنفسي. وأوضح أنه مرت سبعة أشهر وكل محاولات إقناعه بأنه من الممكن أن يعود يمشي على قدميه مجدداً بالاعتماد على طرف صناعي، باءت بالفشل. خصوصاً أنه لا يوجد أفق لإعادة تشغيل مركز الأطراف الصناعية الوحيد في غزة، قريباً نتيجة استمرار الحرب.
يواجه ذوي الإعاقة في قطاع غزة الذي يعيش حرباً منذ أكثر من مئتي يوم، تحديات كبيرة، حيث يتعرضون للمخاطر الناجمة عن الظروف القاسية المصاحبة للحرب على القطاع، والبيئات غير الصحية وغير الموائمة في أماكن النزوح. بالإضافة إلى ذلك، يعانون من نقص في الرعاية الصحية وصعوبة الوصول إلى الخدمات الطبية.
وفقًا لتقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان، فقد سُجِّلت 12 ألف حالة إعاقة جديدة منذ بدء الحرب في القطاع حتى الثامن من فبراير الماضي، فيما تجاوزت الإصابات الناتجة عن الحرب الـ77 ألف حالة حتى كتابة هذه الأسطر. وتُعَد هذه الإصابات مصدرًا لتحديات متعددة، حيث يعاني المتضررون من إصابات جسدية خطيرة تُلحق آثارًا طويلة الأمد على صحتهم ونوعية حياتهم.
تلك الإصابات قد تؤدي إلى الإعاقة والعجز الدائم، مما يعوق تحقيق أحلامهم ويؤثر على مستقبلهم بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، يواجه الجرحى تحديات كبيرة في التكيف مع وضعهم الجديد، وهو ما يقول مختصون إنه وضع قد يؤدي إلى فقدان الأمل وانعدام الثقة بالمستقبل لدى شريحة عريضة من ذوي الإعاقة، وبخاصة بعد تعطل كافة مراكز الرعاية الخاصة بهم عن العمل منذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين أول الماضي.
محمود أسعد (45 عاما) من سكان مدينة غزة قال: "لا أعلم كيف استطعت الهروب وعائلتي وابنتي الجامعية التي تعاني من إعاقة حركية منذ الصغر، يوم اشتداد القصف الإسرائيلي على الحي الذي نسكن فيه (..) اضطررنا لمغادرة منزلنا الموائم بشكل كلي لتلبية احتياجات ابنتي الحركية والنزوح إلى مدرسة إيواء غرب غزة، ولم نتمكن من أخذ الأدوات المساعدة، وبسبب التهديدات الإسرائيلية، نزحنا مرة أخرى إلى خيمة في مدينة رفح".
وأشار إلى الافتقاد لكافة الأدوات المساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة، كالكرسي المتحرك والعكازين وغيرها، ويؤكد أن النقص الحاد في الدعم والمساعدة المتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة في مثل هذه الظروف القاسية، يلقي بآثار نفسية عميقة على الأشخاص أنفسهم وأسرهم أيضا.
وتجاوز عدد النازحين في مدينة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة، المليون شخص، مما يعكس حجم الأزمة الإنسانية الضخمة التي تواجهها المنطقة. يعيش هؤلاء النازحون من بينهم العديد من ذوي الإعاقة في حالة من القلق والخوف المستمر، مع توقع هجوم إسرائيلي وشيك، دون وجود أي مخرج أمن يبدو متاحًا أمامهم.
وتبدي رحاب عبد الحليم (55 عاماً) التي تعاني إعاقة حركية منذ زمن، تخوفا شديداً على حياتها نتيجة الهجوم المرتقب على رفح، قائلةً: "بالكاد استطعت النزوح من مسكني في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة وجئت إلى هنا حيث الخيمة، وليس لدينا خيارات لا نعلم إلى أين يمكن أن نفر كي ننجو بأنفسنا؟".
وأوضحت أنها تعاني حالة صحية متردية، لا تعينها على الاعتماد على نفسها في قضاء احتياجاتها، لذلك تعتمد على أفراد أسرتها في نقلها من الفرشة إلى الكرسي أو لنقلها إلى دورة المياه، مشيرة إلى أن الظروف التي تعيشها في كنف الخيمة، لا تراعي كرامة وآدمية الأشخاص عموما بما فيهم الأشخاص ذوي الإعاقة.
وقبل بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، أفاد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بأن عدد الأفراد ذوي الإعاقة من سكان قطاع غزة يبلغ نحو (58 ألفًا).
وتتجدد معاناة وتحديات الأشخاص ذوي الإعاقة مع كل جولة من جولات النزوح القسري. حيث أفاد العشرات منهم أنهم كانوا يواجهون صعوبات هائلة في التنقل والهروب، سواء كانت إعاقتهم حركية، سمعية، بصرية، أو ذهنية.
بالنسبة للإعاقة السمعية يقول شادي بركات (*) شارحاً أزمته بلغة الإشارة "في اللحظات الحرجة، نجد أنفسنا محاصرين بين حاجتهم الملحة للمساعدة وبين ضغوط الفوضى والخطر التي يفرضها القصف المستمر، في الحقيقة نحن لا نسمع مصدر القصف، لذلك نستمر في ملاحقة من حولنا فنهرب حيث يهربون".
وأضاف بركات (28 عاماً) أنه ربما يكون أحسن حالاً من مقارنة بغيره من أصحاب الإعاقة البصرية والحركية، فالمعاناة تزداد تعقيدًا عندما يحاولون الفرار من القصف رفقة عائلاتهم، فالشوارع المدمرة والبنى التحتية المهدمة تشكل عقبة كبيرة أمام تنقلهم. يتعثرون في الأنقاض والحفر، وتعجز الكراسي المتحركة والأجهزة المساعدة عن التقدم في وجه هذه العوائق.
وأوضح أن كل ذلك يحدث في غياب تام لتحذيرات مسبقة، مما يزيد من رعبهم ويعزز شعورهم بالعزلة والخوف في هذه اللحظات الحرجة.
يتناقض هذا الواقع تماما مع ما نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي دعت إلى اتخاذ "جميع التدابير اللازمة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر، بما في ذلك حالات النزاع المسلح".
ومع ذلك، تعرض العديد من المنشآت الطبية والإنسانية التي تقدم خدمات تأهيلية وطبية للأشخاص ذوي الإعاقة لهجمات من قبل قوات الاحتلال خلال الحرب. ووفق إفادة مركز الميزان لحقوق الإنسان، فقد تضمنت هذه الهجمات تدمير مرافق مهمة مثل مستشفى الشيخ حمد للتأهيل والأطراف الصناعية، ومستشفى الوفاء للتأهيل الطبي، ومركز الأدوات المساعدة التابع للإغاثة الطبية، ومقر الاتحاد الفلسطيني العام للأشخاص ذوي الإعاقة في محافظة الشمال، ومدينة الأمل لبناء القدرات التابع للهلال الأحمر في غزة. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت الجمعيات الخاصة بتأهيل المعاقين واستراحة الشاطئ الموائمة للأشخاص ذوي الإعاقة لأضرار جسيمة.
(*) أسماء مستعارة