رفح: رحلة البحث عن الأمان في أرض الخيام

رفح: رحلة البحث عن الأمان في أرض الخيام

من مسافةٍ بعيدة إلى حدٍ ما، تبدو خيام النازحين المُهترئة غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، كأنّها صناديق ملونة، وتبعد نقاط تمركز الجيش الإسرائيلي عشرات الكيلومترات عنها، لكن ذلك لا يعني مطلقاً أنها مناطق آمنة لأنّ الطيران لا يكف عن التحليق المكثف فوقها أو استهداف أشخاص أو أماكن بالقربِ منها.

ولأنّ المنطقة التي يُصطَلح عليها "المواصي" يغلب عليها من الأصل الطابع الريفي، فإنّ رياح الخماسين تعصف بوجوه النازحين الغبار والأتربة والهواء الساخن، الذي يحول الخيام إلى دفيئة زراعية. ومع ذلك، يحاول الآلاف من النازحين التعايش مع هذه الظروف المعقدة. من بينهم إيمان (52 عاماً)، والتي ترعى أمها المصابة بضغط الدم والسكري.  

زرنا مخيم الإيواء هذا وسط موجة حرٍ شديدة تلهب الجباه بسيل العرق. عملياً هو مكان تتجلى فيه مأساة حرب غزة الطاحنة من وجوهٍ عديدة، عائلات فرّت من مساكنها شمال غزة تحت وطأة القصف العنيف، وانتقلت عبر محطات مختلفة من مكانٍ إلى آخر على مدار سبعة أشهر، إلى أن انتهى بها المطاف هنا داخل خيمة صُنِعت من البلاستيك. يبدو واضحاً أنّ الناس أقاموا هنا خيامهم بطرق عشوائية، حيث لم يعد بإمكانهم تحمل تكاليف الإيجار ولأن المساكن ليست آمنة مطلقاً فلا خيار سوى الخيمة.

صباح أحد أيام إبريل، كان الهواء مشبعاً بالحرارة لدرجة يصعب معها استنشاقه، وبينما كانت مجموعة صغيرة من الأطفال قد وجدت في الرمل ملاذًا لمواصلة حقها في اللعب هروباً من وطأة القصف الذي يسمع من حين لآخر، دون معرفة مصدره. كانت "إيمان" تحرك قطعة من كرتون صغيرة في يدها لاستجلاب الهواء، أمام وجه أمها التي تعاني الاختناق بوجنتين محمرتين على نحو داكن.

قالت: "لا سبيل أمام هذا الحرَ إلا استخدام الكرتون لتحريك الهواء داخل الخيمة ( ..) ليس هناك سبل للتهوية كما ترون فالخيمة مثل صندوق محاط بالنايلون من كل اتجاه، وأمي سيدة مريضة لا تقوى على احتمال هذا الطقس، وأنا أحاول أن اساعدها على التنفس".

وإلى جوار خيمتها، تكدست المئات من العائلات الأخرى تحت أسقف مرقعة بعضها من النايلون وجزء منها من الصفيح، وآخر من القماش البال. يبدو واضحاً أنهم كانوا يجمعون أي شيء يمكن أن يجدوه لصناعة مأوى هش مهلهل لا يصمد في مواجهة الطقس.

لا يشعر النازحون غالبا بتعاقب الأيام، وكأن الزمن قد توقف هنا، الأيام تشبه بعضها، الكل منشغل في همومه اليومية، المتعلقة بتوفير المياه والمأكل والمشرب، الجميع هنا عبروا عن غضبهم تجاه الظروف التي يعيشون.

يبدون جميعًا مُنهكين ومحبطين ومنهم "إيمان" التي أعربت عن أسفها حيال غياب أفق إحراز اتفاق تهدئة يضمن عودتهم إلى مساكنهم التي دمر جزء كبير منها نتيجة القصف، وتقدر عدد الوحدات السكنية التي تعرضت لتدمير بين كلي وجزئي نحو 380 ألف وحدة، وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة.

عدا عن ذلك فإن هناك معاناة شديد تقول "إيمان" تتعلق بالإصابة بالأمراض والأوبئة ونقص الخدمات العلاجية والصحية، بالإضافة إلى تردي الواقع المعيشي على ضوء فقدان الأسر لمصادر الدخل.

بينما كنا نقف على مدخل إحدى الخيام، جاءت طفلة تشير إلى الدفتر المحمول بين كفينا "هل سجلتم اسم عائلتنا؟، هل توزعون المساعدات؟، تعالوا إلى خيمتنا، جدي ملقى هناك مغشى عليه".

الأصوات هنا مختلطة، كل يتحدث عن احتياجاته، على أمل أن يلقى آذانا مصغية. وآخرون يشيحون برؤوسهم "تجاهلوهم، كل الكلام بلا جدوى لا أحد يسمع"، يقول أحدهم. 

تبعنا شابة عشرينية تدعى سمر عمر (*) اصطحبتنا إلى خيمتها، لتشرح لنا الواقع عن كثب. على مدخل الخيمة كانت تجلس سيدة مكتنزة أمام موقد حطب، وتصنع حساء العدس. لم تكترث لوجودنا وهي تتصبب عرقاً. سحبت الفتاة بطانية رمادية اتخذوا منها بابًا للخيمة. ودعتنا للولوج، ثم باغتتنا بعكس الأدوار وباشرت بطرح جملة من الأسئلة: "هل تحتملون هذا الطقس؟، هل يعرف العالم شيئا عن معاناتنا هذه؟، نحن لا نملك المال كي نسافر لذا؛ نحن مضطرون لدفع الثمن مرتين، في المرة الأولى حين نزحنا، وفي المرة الثانية حين انتظرنا أن يأتينا الموت ونحن في المنطقة الآمنة كما يدعون، داخل خيام أشبه بالتوابيت".

تمشي "سمر" التي أنهت قبل عاميّ دراسة الهندسة المدنية، خطوتين باتجاه ستارة قامت بسحبها وقالت: "انظروا هذا هو الحمام، هل يوجد شخص في هذا العصر يقضي حاجته باستخدام كرسي بلاستيكي مثقوب من الوسط وأسفله وعاء يضطر لإفراغه من ساعة لأخرى؟!". داخل هذه المساحة التي لا تتجاوز مترين تقريباً يوجد كرسيًا ووعاء وإبريقًا بلاستيكيًا وليفة معلقة على مسمار دُق على ضلع خشبي في زاوية الخيمة.

 الوضع المأساوي الذي تعيشه "سمر" أمر شائع هنا بين خيام النازحين الذين يواجهون تعقيدات مختلفة نتيجة سوء خدمات الرعاية الصحية على ضوء خروج المشافي عن الخدمة بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية التي أدت إلى خروج 32 مستشفى على مستوى القطاع، عن الخدمة.

تقول "سمر" إن شقيقتي رقدت في خيمتها رفقة زوجها وأطفالها الأربعة لنحو أسبوعين بفعل إصابتها بمرض الكبد، ولم تستطع الحصول على العلاج داخل المشفى. نحن لا شك لدينا مطلقاً بأن الفيروس انتقل لأسرتها أيضاً، لأنه وفي هذه الظروف عزل المريض أمر مستحيل.  

وتعاني نحو 1.10 مليون امرأة في قطاع غزة من الحرب، أكثر من 90% منهم مهجرات قسراً من منازلهن ومناطق سكنهن وسط ظروف إنسانية غير ملائمة، وفقًا للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.

وتواجه النساء والفتيات مصاعب اقتصادية واجتماعية إضافية ينتج عنها محدودية فرص حصولها على جميع الخدمات الأساسية لا سيما الفتيات اللواتي يعانين من إعاقات حركية. وهو ما يعقد عليهن الانتقال من مكان إلى آخر بحث عن الأمان أو مصدر دخل، أو الحصول على المساعدات الإغاثية.  

خرجنا من الخيام محملون بالكثير من الأسى للظروف التي تعيشها النساء هنا، إلى جانب توصية بضرورة الإفصاح عن رغبات معظم اللواتي قابلهن، بأنهن يرغبن في العودة إلى مساكنهم المهدمة في شمال غزة على البقاء تحت رحمة الخيام. تقول إحداهن: "أخبروا العالم، أننا لسنا دعاة هجرة ولا حرب، نحن مدنيون متعطشون للشعور بالأمان والعودة إلى مساكننا ليس أكثر". 

 

(*) اسماء مستعارة