قبل وقت قريب، أثيرَ جدل كبير بشأن تمويل إعادة إعمار مسجد خليل الوزير في وسط مدينة غزة، بتكلفة إجمالية بلغت مليون دولار، في وقت يعاني القطاع أوضاعاً بائسة بفعل الحصار وتداعيات انعدام فرص العمل وتأثيرها في مناحي الحياة كافة.
ثمة مبررات ساقتها الحكومة التي تديرها حركة "حماس" في قطاع غزة، للتخفيف من حدة الجدل المُثار بشأن القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مفادها أن "الممولين يضعون شروطاً لتمويل مثل هذه المشاريع، وأن على الوزارة المختصة الالتزام بها"، وإمّا أن يتم بناء المسجد، أو يلغى المشروع من الأساس وفقاً لطلب الممول.
في الواقع، هذه ليست أول مرة يثور فيها غضب المواطنين نتيجة البذخ في الصرف على مشاريع من هذا النوع، في وقت تتعاظم الحاجة إلى مزيد من الوحدات السكنية لاستيعاب عدد السكان الآخذ بالارتفاع، إذ يعيش أكثر من مليونيْ مواطن في بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً، وهي البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.
تصل حاجات القطاع من الوحدات السكنية إلى 120 ألف وحدة سكنية بالإضافة إلى 14 ألف وحدة سكنية سنوياً لتلبية الزيادة الطبيعية للسكان، وذلك وفقاً لتقديرات وزارة الأشغال العامة والإسكان. وهناك 25 ألف وحدة سكنية آهلة بحاجة إلى إعادة بناء في إثر الضرر الذي أصابها جرّاء الاعتداءات الاسرائيلية، و60 ألف وحدة تحتاج إلى ترميم وإعادة تأهيل لتصبح صالحة للسكن.
وبصرف النظر عن الجدلية الفقهية بشأن فكرة بناء المساجد في قطاع يعاني تضخماً في عددها، فإن القيمة الإجمالية لثلاثة أو أربعة مشاريع لمساجد فارهة، كافية لتغطية تكاليف بناء مئات الوحدات السكنية في القطاع.
تقييم حالة المشاريع الإنشائية في غزة بواقعية تامة، يرشدنا إلى أن اتجاهات التخطيط والتوجه للمانحين محاطة بالكثير من الشوائب، وإلّا ما معنى ألّا تتوافق أو تنسجم المشاريع مع حاجات غزة في مختلف القطاعات وعلى رأسها قطاع الإسكان والبنى التحتية، وكذلك تنمية قطاعيْ الزراعة والصناعة؟
أكثر من ست سنوات مرت على البدء بإعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب الأخيرة (حزيران/يونيو 2014) التي أثّرت في كافة الأنشطة الحياتية، والتي كان من المفترض أن تكون فرصة مناسبة لتخطيط بنيوي مناسب يضمن تحسين فرص الحياة بدءاً من إعادة إعمار المساكن المهدمة والبنى التحتية والمنشآت الصناعية.
لكن لا يعقل بعد كل هذه السنوات والتمويل الذي وُجِّه نحو إعادة إعمار غزة أن تبقى قضايا الحقوق الأساسية في السكن والصحة والتعليم تشكل تحدياً حقيقياً.
لنقف على حجم بعض العجز في قطاعات رئيسية، نبدأها بـالتعليم:
يفيد تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان بعنوان "التعليم في قطاع غزة، التحديات واتجاهات الحلول"، بأن الحاجات المطلوبة من منشآت مدرسية جديدة للوصول إلى "الحق في التعليم المناسب"، تتمثل في 142 مبنى مدرسياً جديداً للفترة 2017-2021، بحسب تقدير الجهات المشرفة على التعليم. وأن "المباني المدرسية في قطاع غزة تعاني جرّاء الضعف الكمي، وإلى حد ما الضعف النوعي ومحدودية التكيف مع الزيادة السكانية، وفي ضوء هذه المؤشرات أصبحت جودة التعليم مبعث قلق كبير جرّاء النقص المتواصل ولِما له من تداعيات خطِرة على مستقبل الطلبة وقدرتهم الاستيعابية". ما يزيد الطين بلة في هذه الفترة تحديداً، في ظل تفشّي جائحة كورونا، هو التعليم عن بُعد، والذي يتطلب بالأساس شبكة كهرباء يُعتمد عليها، ناهيك بالأمور الأُخرى، مثل الإنترنت وتوفُّر أجهزة الحاسوب التي يفتقدها كثير من العائلات.
أمّا على صعيد قطاع الصحة، فالأزمة تبدو أكثر عمقاً:
نتيجة تردّي الواقع الصحي في قطاع غزة، وانعدام الخدمات الصحية التي تلبي حاجات السكان، تضطر وزارة الصحة إلى شراء الخدمة من خارج مرافق الوزارة بما يُعرف بـ (التحويلات العلاجية)، والتي بلغت قيمتها الإجمالية، ووفقاً لتقديرات الوزارة خلال سنة 2019، 26.355.664 شيكلاً من خارج مشافي قطاع غزة.
قد تكمن الكارثة الحقيقية في عدم توفُّر بدائل أمام السكان الذين يعيش أكثر من 60% منهم على المساعدات، إذ لا يمكنهم إلّا اللجوء إلى المشافي العامة التي تعاني نقصاً حاداً ومستمراً في إمدادات الدواء والأجهزة الطبية، فضلاً عن العجز في الكادر الطبي الذي اضطر جزء كبير منه إلى الهجرة خارج حدود غزة بحثاً عن فرص عمل وحياة أفضل، الأمر الذي أثّر في جودة تقديم الخدمة للمرضى.
تشكل التحديات والقصور في جهازيْ التعليم والصحة مثالاً آخر لعدم قدرة البنى التحتية على تلبية حاجات السكان. هذه البنى الهشّة تأتي نتيجة القيود التي تفرضها إسرائيل، وتحول دون توفير حياة طبيعية للسكان. وتأتي أزمة المياه وشبكات الصرف الصحي في قلب مشاكل البنى التحتية في القطاع، وبصورة خاصة أزمة تلوث المياه، وتعرُّض ما يقرب من 60 تجمعاً سكانياً يقع في مناطق منخفضة في عموم أنحاء قطاع غزة لخطر الفيضانات سنوياً.
يضاف إلى ما تقدم، أزمة النقص الحاد في الكهرباء وهي أزمة مستمرة منذ 15 عاماً، وتنعكس تأثيراتها على مختلف مناحي الحياة، ولا يوجد إلى الآن حل جذري في هذه الأزمة، على الرغم مما يُشاع بين الحين والآخر عن اقتراب الوصول إلى خطوط إمداد للغاز لتشغيل محطة توليد الطاقة الوحيدة في القطاع.
المستبصر بحالة غزة وحاجات السكان المتزايدة يوماً بعد يوم، يدرك حقيقة أنه لم يعد من المنطق استمرار تبرير تنفيذ بعض المشاريع الإنشائية ذات التكلفة المالية الباهظة التي لا تدخل في نطاق الأولويات، لمجرد أنها تأتي وفق اشتراطات المانحين، أو على الأقل أن يتم الضغط على المانحين لتنفيذ حاجات أساسية تشكل أولوية لأهل غزة.