في ساعة الصباح الأولى، يجلس محمود مفيد (20 عامًا) على أرضية خيمته غرب مدينة غزة، يضع هاتفه أمامه محاولًا الدخول إلى منصة Wise School الخاصة بامتحانات التوجيهي الإلكتروني. أصوات الطائرات تحوم في السماء، وأخبار عن قصف جديد تصل عبر هواتف الجيران، بينما ينشغل والده بمتابعة إشعارات الإخلاء المحتملة.
يحاول مفيد أن يصب تركيزه على الأسئلة التي ظهرت على الشاشة، فيما يدوّن ملاحظاته على ورقة صغيرة بجواره، مدركًا أن أي انقطاع في الإنترنت أو انفجار قريب قد يطيح بامتحانه كله.
هذا المشهد ليس حالة فردية، بل صورة متكررة يعيشها آلاف الطلبة في غزة الذين يقدّمون امتحاناتهم وسط ظروف استثنائية، حيث يختلط صوت المؤقت الإلكتروني بصفارات الإنذار وصفحات الكتاب المهترئة.
منذ عام 2023، ومع تصاعد وتيرة النزاع في قطاع غزة، فقَدَ طلبة الثانوية العامة عامهم الدراسي الأول. وفي عام 2024، لم تُعقد الامتحانات نتيجة القصف المتواصل الذي حوّل الفصول إلى أنقاض، والمناهج إلى أوراق متناثرة.
لاحقًا، وفي محاولة لاستدراك التأخير، حددت وزارة التربية والتعليم العالي موعدًا استثنائيًا في أبريل 2025، لكنه أُجّل مع اشتداد العدوان وتحذيرات الإخلاء، ليجد نحو 27 ألف طالب وطالبة من مواليد 2006 أنفسهم عالقين لعامين متتاليين خارج النظام التعليمي.
الحرب تركت النظام التعليمي في غزة في حالة شلل شبه كامل؛ فقد دُمّرت مئات المدارس كليًا أو جزئيًا، وتحولت أخرى إلى ملاجئ للنازحين. وبحسب تقديرات أممية، فإن أكثر من 80% من المؤسسات التعليمية في القطاع خرجت عن الخدمة، مما حرم مئات الآلاف من الطلبة من مقاعدهم الدراسية، وقطع سلاسل التعليم لسنتين متتاليتين.
الطالبة سجى راضي قالت: "كنت أنتظر الثانوية العامة لألتحق بالجامعة، لكن الحرب غيّرت مسار حياتي حتى تسلل اليأس إلى قلبي وفقدت الأمل في الانتهاء من التوجيهي."
بينما يروي عمرو جابر أنه اضطر لتغيير مساره من العلمي إلى الأدبي لأن ظروف النزوح لم تسمح له بالتركيز في الدراسة على المواد العلمية: "درست وحيدًا من كتبٍ قديمة، بلا معلم ولا مختبر."
وسط هذا المشهد الكارثي، لجأت وزارة التربية والتعليم إلى خيار اعتبرته "الحلّ الممكن الوحيد"، وهو تنظيم امتحانات الثانوية العامة إلكترونيًا عبر المنصة، بحيث يتمكّن الطلبة من أداء اختباراتهم الصباحية من أي مكان يتواجدون فيه، بما في ذلك الخيام ومراكز النزوح.
الوزارة وصفت هذه الخطوة بأنها "انتصار لحق الطلبة في التعليم وسط الركام"، لكن التطبيق على الأرض بدا أكثر تعقيدًا بكثير.
الواقع اليومي للطلبة أظهر أن الامتحانات تُجرى عبر الهواتف الذكية، في بيئة غير مهيأة، حيث لا كهرباء مستقرة ولا اتصال آمن بالإنترنت. تقول ديما رائد: "أحاول أن أركز على الأسئلة بينما عائلتي تستعد للإخلاء من مدينة غزة. لا أعرف إن كنت سأكمل الامتحان أو أهرب قبل أن تنتهي فترة الامتحانات."
أما الطالب إبراهيم عبد الله فكان يذاكر طوال الليل وسط أصوات انفجارات هائلة تهزّ مدينة غزة، لكنه فوجئ صباحًا بصدور إعلان من وزارة التربية بأن جلسة امتحان اللغة العربية تأجلت إلى الثلاثاء 16 سبتمبر 2025.
جاء ذلك إثر تعطل المنصة نتيجة هجوم سيبراني قوي استهدف البنية الإلكترونية للمنصة. الوزارة أكدت أن الجلسة المُعلن عنها ستُعتبر "جلسة تجريبية"، وأن الامتحانات ستُستأنف يوميًا حسب الجدول المتفق عليه بعد إصلاح العطل.
يقول عبد الله: "استعددت طوال الليل، وفي اللحظة الأولى من بدء الجلسة قيل لنا إن الامتحان تأجل. شعرت وكأن الحرب تلاحقنا حتى على شاشات الهواتف."
محمد فهمي أيضًا تنقلت عائلته من حي الشيخ رضوان شمالي قطاع غزة إلى حي تل الهوى جنوب المدينة، بعد ليالٍ جنونية واجهوا فيها خطر الموت المحتم نتيجة صعوبة الوضع الأمني. يقول: "قضيت ليالي وسط قلق ورعب شديدين، ثم اضطرت عائلتي للنزوح داخل مدينة غزة بشكلٍ اضطراري حتى يتسنى لي استكمال امتحاناتي ومن ثم الانتقال إلى محافظات جنوب قطاع غزة."
وخلال أغسطس الماضي، توالت أوامر الإخلاء الإسرائيلية لأحياء واسعة في مدينة غزة، ما أجبر آلاف العائلات على النزوح المتكرر بين الشمال والجنوب. وفي 9 سبتمبر الحالي صدر أمر غير مسبوق بإخلاء المدينة بأكملها والتوجّه جنوبًا نحو مواصي خانيونس جنوب القطاع، بالتزامن مع تكثيف القصف.
هذا الواقع جعل طلبة الثانوية العامة يعيشون امتحاناتهم الإلكترونية تحت تهديد مزدوج: فقدان الاتصال بالمنصة من جهة، والخوف من أن يداهمهم أمر إخلاء جديد وهم وسط جلسة الامتحان من جهة أخرى.
وبينما تحاصرهم ظروف الحرب، يوصي مختصون ومربّون بمجموعة إرشادات يمكن أن تساعد الطلبة وذويهم في تقليل المخاطر وضمان تقديم الامتحان.
إرشادات للطلبة
الدخول المبكر: حاولوا تسجيل الدخول قبل نصف ساعة من الموعد.
شحن الهاتف مسبقًا وتجهيز بنك طاقة إن توفر.
تدوين بيانات الدخول على ورقة للاحتياط عند تعطل الهاتف.
إغلاق التطبيقات الأخرى لتقليل استهلاك الإنترنت.
عدم المخاطرة: إذا صدر أمر إخلاء أو وقع قصف قريب، غادروا فورًا واطلبوا لاحقًا تثبيت العذر لدى المدرسة أو الوزارة.
الهدوء النفسي: مارسوا التنفس العميق، واستخدموا ورقة وقلم لتدوين ملاحظات جانبية بدل التنقل بين التطبيقات.
إرشادات للأهالي
الدور الأسري لا يقل أهمية عن جهد الطلبة:
تأمين الجو المحيط: خصصوا ركنًا هادئًا قدر الإمكان أثناء الامتحان.
إدارة الإنترنت: أوقفوا استخدام الشبكة من بقية الأجهزة في المنزل أثناء الجلسة.
متابعة البطارية: تأكدوا من شحن الهاتف بشكل كامل، دون إرباك الطالب.
الأولوية للحياة: لا تسمحوا لأبنائكم بالمخاطرة بالبقاء في موقع خطر من أجل الامتحان.
الدعم النفسي: امنحوهم كلمات طمأنة بعد الامتحان بدل التركيز على الأخطاء أو النتيجة.
بحسب وزارة التربية والتعليم، فإن دورة سبتمبر 2025 هي خطوة استثنائية لإنقاذ آلاف الطلبة الذين تعطلوا لعامين كاملين عن التقدّم للامتحانات. لكن المسار التعليمي في غزة ما زال غارقًا في المجهول وسط انهيار النظام التعليمي، وهو ما يهدد تعليم نحو 700 ألف طالب في مختلف المراحل الدراسية، بينهم عشرات الآلاف من طلبة الثانوية العامة الذين يعيشون قلقًا متواصلاً على مستقبلهم.
امتحانات الثانوية العامة في غزة لم تعد حدثًا دراسيًا عاديًا، بل اختبارًا للحياة وسط الدمار. الطلبة اليوم يقدّمون أوراقهم الرقمية صباحًا عبر هواتفهم تحت أصوات الطائرات وصفارات الإنذار، فيما يحاول الأهالي تأمين الحد الأدنى من بيئة تعليمية في ظروف أقسى من أن تُحتمل.
قد تنجح التجربة الإلكترونية في إنقاذ عام دراسي ضائع، لكن يبقى السؤال الأكبر: كيف يمكن للتعليم أن يستعيد دوره الحقيقي في بيئة تُصر الحرب على محو مستقبل أجيال بأكملها؟
طلبة التوجيهي في قطاع غزة