داخل خيمة صغيرة جنوب قطاع غزة، تجلس سماهر نصر (29 عامًا) ترتجف يدّها وهي تفتح دفترها الوردي. كلما دوّى انفجار قريب، تلجأ إلى الورق لتفرغ خوفها. دموعها تسبق الكلمات، والقلم لم يعدّ مجرد أدّاة، بل مهرب مؤقت من حصار القلق، وخطوة صغيرة في رحلة التشافي من جروح الحرب. دفترها صار شاهدًا على صراعها اليوميّ بين الخوف والرجاء.
تقول الشابة، وهي تحتضن دفترها: "أضحى رفيقي الأول وصندوق أسراري. أبكي وأضحك معه. الكتابة لا تمنحني راحة كاملة، لكنّها تنقذني من الاختناق". لم تكن تفكر يومًا في التدوين، لكن نصيحة من مختصتها النفسية، التي شخصت إصابتها بالاكتئاب الحادّ، دفعتها لتجربة الكتابة كعلاج. ومنذ ذلك الحين، صار القلم أقرب إلى دواء.
الإحصاءات الصادرة حول أحوال سكان قطاع غزة تؤكد الحاجة لوسائل للتفريغ النفسي، ويظهر في تقرير صدر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن 40% من الأمهات في غزة يعانين من اكتئاب حادّ، و51% من النساء النازحات يبكين عند سماع أصوات الانفجارات، بينما تعيش 68% منهن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
تُظهر هذه الأرقام أن سكان غزة لا يواجهون فقط الخسائر المادية والنزوح المستمر، بل صراعًا صامتًا داخليًا مع الصدمة والخوف، حيث يفتقر كثيرون إلى الدعم النفسي المنظم.
وفي غياب الدعم النفسي، تتحول الكتابة إلى وسيلة بديلة للعلاج، بينما يشير مختصون إلى أنّ التدوين هنا ليست ترفًا أدبيًا، بل أداة بقاء تساعد الناس على استعادة شيء من التوازن وسط واقع يهدد بانهيارهم الداخلي.
محمد سالم (22 عامًا) يعيش تجربة مشابهة من نصر. نزح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، تاركًا صديقًا رحل في قصفٍ إسرائيلي دون أن يتمكن من وداعه. لم يجد طريقة للتخفيف عن نفسه سوى الكتابة.
يروي وهو يتصفح أوراقه المليئة بالحبر والدموع: "أختي قدمت لي ورقة وقالت: اكتب لصديقك. كتبت ورثيته، وكلما كتبت أكثر بكيت أكثر".
سالم اليوم لا يفارق الدفاتر، حتى لو واجه انتقادات أشقائه: "يقولون إن الطعام أهم من الورق، لكنّي أجد في الكتابة حياتي". يجلس أمام خيمته، محاطًا بأقلامٍ نفدت ودفاتر امتلأت، ليؤكد: "لا أتخيل نفسي من دون التدوين. هو الشيء الوحيد الذي لا يلومني".
أما آلاء أحمد (35 عامًا)، وهي أرملة وأم لثلاثة أطفال تقطن في مواصي خان يونس جنوب القطاع، اختارت التدوين بطريقة مختلفة. تمسك بهاتفها وتكتب في الملاحظات بعد أن تنهي يومها المثقل بالطبخ وتعليم الأطفال وإشعال النار.
درست أحمد علم النفس، وتعرف أن الكتابة وسيلة علاجية معترف بها. تقول: "تعبت من تحمل المسؤولية وحدي. أكتب لأحافظ على طاقتي بعدما كنت أنفعل على أطفالي من أبسط موقف".
ترى في توفير الورق والأقلام ترف لم تعد قادرة على تحمل تكاليفه وسط موجة غلاء الأسعار غير المسبوقة التي تُصيب قطاع غزة، فتكتب على هاتفها حتى يقطعها بكاء أطفالها ليلًا. لكنها تعود دائمًا إلى كلماتها كملاذ مؤقت.
ويزداد ثِقل هذا الواقع حين نعلم أن غزة، بكل ما تحمله من ندوب النزاع، لا تضم سوى مستشفى نفسي وحيد لا يتسع إلا لخمسين مريضًا في وقت يتجاوز فيه عدد السكان المليونين. أما الأطباء النفسيون فلا يتعدى عددهم أصابع اليدين، عشرة فقط، أي طبيب لكل مئتي ألف إنسان.
وتكشف تلك الأرقام هوّة شاسعة عن الحد الأدنى مما توصي به المعايير الدولية، وتجعل البحث عن بدائل شخصية – مثل الكتابة – أشبه بمحاولة فردية لتعويض غياب المنظومة كاملة.
محمد بشار (40 عامًا)، بائع على بسطة، وجدَ في الكتابة أيضًا وسيلة للهروب. منذ طفولته كتب الشعر، لكنه توقف سنوات طويلة. الوضع الراهن أعاده إلى الشعر مجددًا، وإن كانت قصائده اليوم "كئيبة ومليئة بالخوف"، كما يقول وهو يقف في طابور لتعبئة جالون مياه محلاة.
يكتب على هاتفه ليلًا فيما تلتصق به ابنته، بدفتر صغير، تدون فيه ما تراه من صفوف النازحين وبكاء إخوتها، ثم تطلب منه أن يقرأ بصوت مرتفع. يبتسم أحيانًا لكنّه يدرك أن كلماتها لم تعد بريئة؛ نصوصها تشبه نصوص الكبار، مليئة بالرعب والخوف، لتصبح الكتابة بينهما لغة مشتركة للنجاة وسط واقع خانق.
الأطفال الذين يلجأون إلى التدوين ليسوا استثناءً، فالتقارير الدولية تشير إلى أن تسعة من كل عشرة أطفال في غزة يعانون اضطرابات نفسية تشمل القلق والاكتئاب والأرق، فيما يصف كثير منهم الموت وكأنه وشيك ويستيقظون ليلًا على كوابيس متكررة.
ومع تدمير معظم مرافق الصحة النفسية وحرمان المرضى من الأدوية الأساسية، تصبح دفاتر صغيرة أو شاشات هواتف وسيلة بديلة للهروب من الرعب، ومساحة إنقاذية تمنح الصغار والكبار معًا فرصة لتسمية مخاوفهم بدل أن تبقى مختبئة في الداخل.
خبراء علم النفس يرون في التعبير من خلال الكتابة أكثر من مجرد هواية. البروفيسور جيمس دبليو بينيبكر، من جامعة تكساس، يصف الكتابة التعبيرية بأنّها علاج فعّال: "مجرد كتابة التجارب المؤلمة لمدة ربع ساعة يوميًا ينظم المشاعر ويقوي جهاز المناعة ويحدّ من القلق".
المعالجة دوريس هونيغ تؤكد أن الكتابة العلاجية تساعد في التعامل مع الحزن والاكتئاب، بينما تشير المعالجة الفلسطينية فلسطين ياسين إلى أنها "تحول الفوضى الداخلية إلى كلمات ملموسة، وتشبه التنفس العميق في تفريغ الغضب والخوف والحزن بشكل آمن".
وتوضح ياسين أن مجرد نقل الأفكار من العقل إلى الورق يساعد على ترتيبها بدل تركها عالقة كدوامة مربكة، ما يمنح المريض شعورًا بالسيطرة على مشاعره. فالكتابة، برأيها، لا تحتاج إلى لغة منمقة أو جمالية خاصة، بل إلى الصدق مع الذات؛ إذ يكفي أن يكتب المرء ما يراه أو يشعر به كما هو، ليتحول الورق إلى مساحة آمنة يضع فيها كل ما يخشاه أن يقوله للآخرين.
وتضيف أن هذه الممارسة، إذا واظب عليها الشخص بشكل يومي، يمكن أن تخفف الضغط النفسي على المدى القصير، وتدعم القدرة على التكيف النفسي والاجتماعي على المدى الطويل.
في غزة اليوم، القلم والورقة – أو حتى شاشة الهاتف – باتت بمثابة علاج منزلي. وسيلة بسيطة لكنها فعّالة في زمن تقلّ فيه الموارد ويشتدّ فيه الحصار، إذ تمنح الكتابة التعبيرية الغزيين مساحة صغيرة للتعبير عن أنفسهم والتقاط أنفاسهم وسط حرب تحاول أن تسلبهم كل ما هو إنساني.
التدوين وسط الحرب للتفريغ النفسي