عن ثلاثية الحرب والمخاض والإهمال في مشفى الولادة

عن ثلاثية الحرب والمخاض والإهمال في مشفى الولادة

كانت أصوات القصف الإسرائيلي هي الخلفية الوحيدة التي رافقت هديل أبو غالي في طريقها إلى مستشفى الحلو الدولي غرب مدينة غزة (المستشفى الوحيد الذي يوفر خدمات الولادة للنساء في محافظتي غزة وشمالها).

في تلك الليلة الحالكة، لم تكن تخشى هديل آلام المخاض بقدر ما كانت مرعوبة من فكرة عدم الوصول حية إلى تلك الجدران التي يفترض أن تكون ملاذًا للأمهات، لكنّها تحوّلت إلى ساحة أخرى من باحات المعاناة في غزة.  

في تلك الليلة، شعرت أبو غالي وكأنّها تسير نحو المجهول، بينما كان الركام يُشكِّل خريطة طريقها نحو مستشفى لم يعد قادرًا حتى على تقديم أبسط حقوقها، وهي الكرامة قبل الرّعاية الطبيّة اللازمة.

"لم نجرؤ على طلب الإسعاف.. عرفنا أنه لن يأت"، تقول هديل بصوتٍ مُنهك، وهي تروي كيف سارت على قدميها من منطقة نزوحها في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة إلى مستشفى الرنتيسي عرباً أولًا، قبل أن ترفض إدارته توفير سيارة إسعاف لها.

بعد مرور وقت، تدخّل أحد المعارف، فنقلت بإسعاف إلى مستشفى الحلو، حيث وجدت نفسها في دوامة من الإهمال: أقسام مكتظة بلا تهوية، أسرة متجاورة بلا ستائر، وطاقم طبي منهك تحت وطأة نقص المستلزمات. "فحصوني أمام الجميع، بلا أدنى خصوصية".

في ذلك المكان، حيث يُفترض أن تبدأ الحياة، تتحول الولادة إلى رحلة عذاب. "هذه كانت ولادتي الخامسة، لكنّها الأصعب، لم يُفتح لي ملف، رغم تاريخي المرضي مع التجلطات والشنجات. لا اهتمام، لا علاج، لا حتى فيتامينات"، تضيف هديل، التي اضطرت لشراء المكملات الغذائية لتتجاوز آثار سوء الرعاية لها، في الوقت الذي يفترض أن توزع فيه بالمجان على النساء الحوامل.

وُلد طفلها سالمًا، لكنه تُرِك عاريًا لنصف ساعة يقاسي ووالدته البرد، فيما تُرِكت القنيّة الطبية "الكانيولا" التي ثُبِتت بشكلٍ خاطئ على يدّها دماءً نازفة وأثرًا دام 22 يومًا، ولم تحصل إلا على جرعة ضئيلة من المسكنات. "أخرجوني من المستشفى بعد 3 ساعات من ولادتي فقط، بوصفةٍ دوائية غير متوفرة"، تقول أبو غالي.  

الأقسام هنا لا تختلف عن الشوارع: نفس الزحام، نفس الإحباط. رأت بأم عينها سيدة تلد على الأرض، بلا سرير، بلا مساعدة. تُردف بصوتٍ مليء بالمرارة: "هذا ليس مستشفى.. هذه غرفة انتظار للموت".

مستشفى الحلو الدولي، غرب مدينة غزة، واحد من شبكة طبيّة هشة، وهو شاهد على انهيار النظام الصحي بأكمله في ظل الحرب التي تدخل شهرها الحادي والعشرين، والتي أخرج خلالها الاحتلال معظم المشافي عن الخدمة، ومنع إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية الطارئة إلى المشافي. بعد الاستماع إلى تلك الرواية، زارت مراسلة "آخر قصة" المستشفى واستطلعت الوضع داخله: في الطابق الثاني، يتحوّل قسم الولادة إلى كابوس: ست حالات ولادة في غرفة بثلاثة أسرّة فقط، مع مرافقيهم. اثنا عشر شخصًا يتنفسون هواءً خانقًا. 

بينما صالة الانتظار في الطابق الأرضي ممتلئة بنساءٍ مُنهكات، بعضهن يجلسن على الأرض، بلا ماء، بلا كراسٍ، بلا أدّنى قدر من الراحة أو الرّعاية الصحية اللازمة.  

في زاوية أخرى من زوايا المستشفى ذاته، تجلس نهيل محرم (30 عامًا)، التي وضعت مولودها فور وصولها إلى المستشفى في الثامنة صباحًا، دون أن تجد سريرًا أو عناية طبيّة. تقول: "لم ألقَ أي اهتمام. كنت منهكة، جسدي مرهق بالكامل، ومع ذلك، لم تقترب مني ممرضة، لم يسألني أحد حتى إن كنت بخير". 

وبعد الولادة، كانت ترتجف من البرد بعد أن قام الطبيب بخياطة جرحها دون مُخدر موضعي على الأقل، ولم يُنقلنها أحد من الكوادر الطبية إلى غرفة خاصة، تقول إنها تركت وحدها مع والدتها التي قامت بنقلها، لأخذ قسط من الراحة واضطرت للنوم على سرير بجوار مريضة أخرى كانت قد وضعت قبل نصف ساعة فقط.

"لو نزفت.. لكنت متت، حتى مضاد حيوي لا يوجد". تختصر بهذه الكلمات مأساة مستشفى لم يعد قادرًا حتى على أداء أبسط واجباته: إنقاذ الحياة. هنا، بين الجدران المتشققة والأسرّة المعدنية الباردة، تتحول كل ولادة إلى معجزة صغيرة في مواجهة كارثة كبيرة اسمها الإهمال.

الوضع الطبيّ في قطاع غزة بشكلٍ عام تتحدّث فيه الأرقام عن نفسها، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، 55 ألف حامل تعاني من نقص الأدوية اللازمة لهن، و90% من الحوامل والمرضعات في غزة يعانين من سوء تغذية حادّ، وثلث هذه الحالات تُصنّف "عالية الخطورة".

وفي ظلّ هذه الأوضاع، بلغ عدد المواليد الجدد منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية يونيو المنصرم، نحو 17 ألف مولود، ما يُضيف عبئًا إضافيًا على نظام صحي شبه منهار.

ومع ذلك، لا يوجد سوى طبيب واحد لكل 10 آلاف شخص، وهو رقم كارثي مقارنة بالحدّ الأدنى الذي توصي به المنظمات الدولية. وخلف هذه الأرقام، هناك آلاف النساء مثل هديل ونهيل، يدفعن ثمن حرب لم يخترنها، وحصار يخنق حتى أحلامهن بأمومةٍ آمنة.

الطبيب عيادة أبو حصيرة، استشاري النساء والولادة داخل المستشفى، يصف الوضع بأنّه "انهيار متسارع" في هذا المستشفى الذي تُحال إليه جميع الحالات المُعقدة من مستشفيات شمال قطاع غزة ومدينة غزة، حيث لا توجد مشافٍ حكومية عاملة سواه.

"كنا نُجري 10 عمليات قيصرية يوميًا، والآن بالكادّ نصل إلى أربع"، يقول أبو حصيرة. "الحالات الطبيعية تصلّ إلى 15 أو 17 يوميًا، لكن المستشفى غير مُجهز لاستقبال كل هذه الاعداد. النساء يتشاركن الأسرّة، ويُطلَق سراحهن بعد ساعة أو ساعتين من الولادة لإفساح المجال لغيرهن".

ويعزو أبو حصيرة هذه الأمور إلى ظروف الحرب الإسرائيلية الحالية وتدّاعياتها على القطاع الطبي، مشيرًا إلى أنه سابقًا كانت هناك قدرة على إدخال النساء تحت الملاحظة لأسابيع، أما اليوم فتُرسل إلى المنزل فور ظهور تحسن بسيط على صحتها، نظرا للعجز في عدد الأسرّة.

ويقرّ الطبيب بوفاة عدد من الأمهات بعد الولادة نتيجة عدم توفر المتابعة الطبية لهن، فضلًا عن سوء التغذية وضعف الدم. ويقول: "بعض الحالات تأتي إلينا طالبة المساعدة، يقولون: 'أنتم من أشرف على الولادة، ساعدونا'، ولكننا لا نملك شيئًا".

النقص في المستلزمات الطبيّة داخل المشفى يطال كل شيء: المضادات الحيوية، المحاليل، الصابون، الكحول، حتى الكلور والمعقمات. ويوضح أبو حصيرة أنّ نسبة ضعف الدم والالتهابات البولية والمهبلية ارتفعت بشكلٍ مُقلق، ما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة أثناء الولادة، سواء الطبيعية أو القيصرية.

يُردف الطبيب: "العديد من النساء يعانين من سوء تغذية حادّ وضعف شديد في المناعة"، مما يزيد خطر النزيف بعد الولادة ويؤثر سلبًا على صحة المواليد، الذين غالبًا ما يولدون بوزن أقلّ من الطبيعي ويصابون بالالتهابات مباشرة، في ظلّ ندرة حليب الأم وغياب المكملات الغذائية".

"نحن ننقل المريضات يدويًا على الكراسي لأنّ المصاعد لا تعمل"، يضيف أبو حصيرة.  بعض النساء يلدن في سيارات الإسعاف، أو في المنازل، دون رعاية طبيّة. يتابع: "أمامي مريضة تنزف، وأنا لا أملك دمًا لإنقاذها. أحيانًا نفقد الأجنة لأننا لا نستطيع فعل شيء".

أمام هذه الظروف ترى النساء الحوامل الموت ألف مرة أثناء وضعهن، فتستمر معاناتهن النفسية لفتراتٍ طويلة بعد الإنجاب. لذلك تؤكد الأخصائية النفسية روضة حلس أنّ الأوضاع الصحيّة في غزة تدفع النساء إلى حافة الانهيار. 

وتضيف الأخصائية حلس "الاكتئاب ما بعد الولادة متفشٍّ، لكن لا علاج نفسيًا ولا دوائيًا". الحرب تزيد الطين بِلة، فالكثيرات يعانين من خوف دائم على أطفالهن، ومن صدمة الولادة في ظلّ القصف وضعف الرّعاية الحاصل، وفق تاكيدها،  بعض الحالات تتطلب تدخلًا دوائيًا عاجلًا وعلاجًا نفسيًا مكثفًا، لكن الواقع الصحي في غزة -المنهار بالكامل- يجعل هذه الاحتياجات مستحيلة.

 وقالت الأخصائية "الولادة في خضمّ القصف هي التجربة الأقسى على المرأة، فالبيئة الآمنة ضرورية، لكنها غائبة تمامًا هنا، ليس فقط عن الأمهات، بل عن كل سكان القطاع عموماً".

وتشير إلى أن الأشهر الثلاثة الماضية كانت الأكثر قسوة منذ بداية الحرب على الحوامل والمرضعات، حيث تضاعفت طلبات الاستشارات النفسية بسبب الاكتئاب والخوف من المستقبل المجهول. "حاولنا تقديم الدعم، لكن استمرار الحرب يحوّل أي جهد إلى مجرد قطرة في محيط من اليأس."

الحلول واضحة، لكنّها بعيدة المنال: يحتجن إلى دعم نفسي عاجل في أجنحة أقسام الولادة، وحملات توعية داخل الخيام حول اكتئاب ما بعد الولادة، وخطوط طوارئ نفسية مخصصة. لكن في ظلّ استمرار القصف وانهيار البنية التحتية، تظلّ هذه الاحتياجات حلما مستحيلًا.

يتناقض هذا الواقع مع ماورد في  اتفاقية جنيف الرابعة، وغيرها من القوانين الدولية، التي تُلزم بحماية المدنيين في النزاعات، خاصّة النساء الحوامل. لكن في غزة، تنهار هذه الالتزامات تحت القصف الإسرائيلي المستمر؛ وتدمير المستشفيات، وانعدّام الخدمات الصحيّة، واضطرار النساء على الولادة في ظروف تنعدّم فيها الرعاية الطبية والنفسية.

المحامي علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير، يؤكد أن إسرائيل كقوة احتلال مُلزمة بتوفير الرعاية للمدنيين، لكنها بدلًا من ذلك تُفاقم الأزمة بتدمير المرافق الطبية ومنع دخول الأدوية. "النساء يلدن في نظام صحي يحتضر، ما يعرّض حياتهن وحياة أطفالهن لخطر دائم"، يقول السكافي.

وعلى الرغم من أنّ القانون الفلسطيني يجرّم الإهمال الطبي، فإن الواقع الميداني يجعل تطبيقه شبه مستحيل. فالمستشفيات لا تعمل إلا بـ 5% من طاقتها، والحصار يمنع دخول المعدات والأدوية. وفي ظلّ غياب الإرادة الدولية، تظلّ التشريعات حاضرة لكن العدالة غائبة، وتدفع النساء الثمن.

زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات بوزارة الصحة في غزة، يصف الكارثة بقوله: "في غزة، تولد الأمهات قبل أطفالهن.. من الألم، من القهر، من اليأس".

لكنّ وصف الوحيدي، وإن نقل عمق المأساة، لا يُخفي تقصير وزارته في إدارة الأزمة. فبينما تتكرر شكاوى النساء من الإهمال، ونقص الكوادر، وانعدام الخصوصية، لا تُقدّم الوزارة خططًا واضحة أو إجراءات بديلة لتقليل الضرر. في وقتٍ يُتوقّع من الجهات الصحية التنسيق ولو بالحدّ الأدنى، لكنّها تقف عاجزة أمام مسؤوليتها في تنظيم العمل، ومراقبة الأداء داخل المشافي، وتوفير الحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانية داخل المشافي العاملة.

في غزة، لا تنتهي الولادة بخروج الطفل، بل تبدأ معها مضاعفات بلا علاج، وألم بلا متابعة. الإهمال يُرهق الأجساد ويترك أثرًا نفسيًا لا يُشفى، في ظل غياب أي مساءلة أو حماية حقيقية للأمهات.