بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون   

بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون   

يجلس محمد عمر (60 عامًا) على مقعدٍ خشبي مهترئ أمام نقطة طبّية مؤقتة داخل إحدى مدارس إيواء النازحين غرب مدينة غزة، ينتظر دوره بلا أمل. منذ الصباح الباكر، وهو يحاول العثور على دواء لانسداد شرايين القلب، لكنّ المخزون نفد منذ أيام. يعود إلى منزله في حي الرمال وسط مدينة غزة خالي اليدين، حاملاً معه آلامًا تزداد حدّة كل يوم.

يرافق مرض القلب هذا المُسن منذ عشرة سنوات، حين اكتشف الأطباء تضخمًا في عضلة القلب وانسدادًا في الشريان التاجي، نصحوه آنذاك بإجراء عملية قلب مفتوح، لكنّ الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ واحد وعشرين شهرًا جاءت لتحول دون ذلك، والآن، حتى الأدوية الأساسية التي كانت تحافظ على استقرار حالته لم تعد متوفرة.

"بالكادّ كنت أستطيع تحمل تكلفة العلاج قبل الحرب"، يقول الرجل بصوتٍ مُنهك، بينما يمسك بعلبة دواء فارغة لضغط الدم المرتفع، وهو المرض الآخر الذي يلازمه منذ سنوات. لم يخضع لأي فحوصات طبية منذ عام ونصف، والأدوية التي يحتاجها تظهر بين الحين والآخر في السوق السوداء بأسعار خيالية، ضعف ما كانت عليه قبل الحرب.

على بعد كيلومترات قليلة، في منزل متواضع بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، يحاول إسماعيل أبو غالي (69 عامًا) التعايش مع مرض السكري الذي رافقه لثلاثة وعشرين عامًا. كان يعتمد على دواء مستورد يحافظ على استقرار مستوى السكر في دمه، لكن منذ بداية الحرب، لم يعد ذلك الدواء متاحًا. 

اضطر أبو غالي إلى اقتناء بدائل رخيصة وضعيفة الجودة بدلاً عن علاجه المستورد، وكانت النتيجة تدهورًا سريعًا في صحته. "أشعر بدوخة دائمة، وكأنَّ الأرض تدور من حولي"، يقول الرجل، بينما يفرك قدميه المتورمتين، اللتين بدأتا تفقدان الإحساس تدريجيًّا.

وعلى إثر ذلك، زار عدة صيدليات ونقاط طبّية، لكنّ الجرعة التي يحتاجها اختفت من السوق. وعلى الرغم من أنَّ الطبيب الذي يُراقب حالته حذره من أنّ البدائل التي يستخدمها تُسبِب تلفًا في الأعصاب، لكنّه لا يملك خيارًا آخر.  

على نحوٍ غير بعيد، في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، تقف تحرير زملط (54 عامًا) في طابورٍ طويل أمام عيادة العودة، تنتظر دورها للحصول على دواء ضغط الدم. تشعر بالخجل كلما اضطرت لزيارة العيادة، لكنَّ الألم أقوى من أي شعور آخر. أصيبت بارتفاع ضغط الدم قبل سبع سنوات، وكانت تحصل على دواء مستورد بانتظام، لكن منذ بداية الحرب، أصبحت الزجاجة الصغيرة التي تحتوي على حبوبها المنقذة للحياة سلعة نادرة. 

"أحيانًا أتناول نصف الجرعة فقط لتطول مدة العلبة"، تقول زملط، التي تعاني الآن من صداعٍ مزمن وضيق في التنفس وضعف في اليدين بسبب عدم انتظام العلاج. زوجها عاطل عن العمل، وليس أمامها سوى الانتظار، حتى لو كان الثمن صحتها.

هذه القصص ليست سوى لحالاتٍ قليلة بين آلاف يعانون من انهيار النظام الصحي في غزة. وفقًا لوزارة الصحة، هناك نحو 350 ألف مريض بأمراض مزمنة مسجلين في العيادات الأولية، لكنّ الغالبية العظمى منهم لا يحصلون على العلاج بشكل منتظم. في يوم واحد فقط، 19 يونيو الماضي، بلغ عدد مراجعي عيادات الأمراض المزمنة في مدينة غزة والمنطقة الوسطى 2579 مريضًا، بينما توقفت مراكز الرعاية في خانيونس عن العمل تمامًا.

الأزمة لا تقتصر على نقص الأدوية فحسب، بل تمتدّ إلى تدمير البنية التحتية الصحيّة نفسها. دمّر الجيش الإسرائيلي 82 مركزًا صحيًّا من أصلّ 90 في القطاع، وأخرج 72 مستشفى عن الخدمة، تاركًا آلاف المرضى دون رعاية مناسبة. يقول زاهر الوحيدي، مدير دائرة المعلومات في وزارة الصحة بغزة، إنّ التسجيل اليومي للمرضى يزداد، لكنّ الموارد تنفد بسرعة.

الأرقام تكشف عن حجم الكارثة أكثر، 47% من قائمة الأدوية الأساسية غير متوفرة، و65% من المستهلكات الطبية نفدت من المستودعات. أمّا بالنسبة لمرضى السرطان، فإنَّ 64% من الأدوية غير موجودة، بينما يُعاني 51% من الأمهات والأطفال من نقصٍ حادّ في الأدوية الخاصّة بهم. حتى التطعيمات الأساسية أصبحت شبه مُنعدِّمة، حيث وصل النقص فيها إلى 47%. 

علاء حلس، مدير عام الصيادلة في وزارة الصحة، يوضح أنّ النقص لم يعد مقتصرًا على الأدوية النادرة، بل يشمل حتى أبسط العلاجات، يقول: "المرضى مجبرون على تغيير بروتوكولاتهم العلاجية، مما يفاقم معاناتهم".

وأشار حلس إلى أنّ القطاع الخاصّ أيضًا لم يعد قادرًا على توفير البدائل. المشكلة تتفاقم يوميًّا مع استمرار إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمعابر، حيث لم تدخل أيّ شحنات أدوية أو مستلزمات طبيّة منذ أشهر، بينما يرتفع الاستهلاك إلى خمسة أضعاف المُعدَّل الطبيعي بسبب الكمّ الهائل من الإصابات.

لا تقتصر تدّاعيات الإغلاق على المعاناة الإنسانية فحسب، بل تمتدّ إلى انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي. يُجمع خبراء حقوقيون على أنّ منع إسرائيل لدخول الأدوية إلى غزة خلال الحرب، وتعريض حياة آلاف المرضى للخطر، يمثل خرقًا واضحًا للاتفاقيات الدولية. في هذا الصدد، يوضح علاء السكافي، مدير مركز الضمير لحقوق الإنسان، أن "حرمان المرضى من العلاج ليس إهمالًا عابرًا، بل جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني."

ووفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، فإنّ المدنيين، وخاصّة المرضى، يجب أن يتمتعوا بحمايةٍ خاصّة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات في غزة ومنع وصول الأدوية يندرجان تحت بند "الإبادة الجماعية" حسب تعريف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، التي تعتبر حرمان مجموعة سُكانية من الظروف الأساسية للحياة جريمة مكتملة الأركان. 

في قطاع غزة اليوم، لا يموت الناس فقط تحت القصف، بل يموتون أيضًا بصمت، بسبب حبة دواء لم تصل، أو حقنة لم يتم توفيرها، أو عملية جراحية لم يسمح لها بالحدوث.

 

موضوعات ذات صلّة:

كبار السن: الضحايا المنسيون للحرب

 أربعون في المئة فارقوا الحياة: مأساة مرضى الكلى

أدوية منتهية الصلاحية: الخيار الأخير لمرضى غزة

أصحاب الأمراض المزمنة يموتون بصمت في غزة

واقعٌ كارثيٌّ يكاد يودي بحياة أصحاب الأمراض المُزمنة في قطاع غزة