
في إحدى زوايا خيمة آية عبد العاطي (26 عامًا) التي خصصتها لبعض المؤنة، حيث لا يرد القماش المهترئ حرًّا ولا بردًا، تجلس ليلاً وهي تضيء كشاف هاتفها الخافت، تحبس أنفاسها، وأذناها تلتقطان أدنى حفيف قادم من كيس الخبز البلاستيكي المُعلّق.
ثم يحدث ما كانت تخشاه: صوت خدش خفيف، يتبعه ارتجاج سريع. "فار!" تصرخ فجأة، فيهب زوجها وأطفالها الثلاثة مذعورين، ليجدوا أربعة فئران تنهش ما تبقى من طعامهم.
"حاولت كل شيء.. الفخاخ، السموم، اللزق، لكن عبث!" تقول عبد العاطي بصوتٍ مبحوح، بينما تمسح دموعًا لم تعد تُخفيها. "لكنها معركة خاسرة. كأننا نحارب جيشًا لا نراه، سئمت من الحياة، أبغض الليل، تمرّ أيام لا أنام سوى ساعتين لأراقب حركة الفئران التي تقفز علينا".
بالنسبة لهذه السيدة، لم تَعد الحرب مجرد طائرات تقصف من بعيد، بل صارت تمشي على أربع قوائم، وتسرق وتُسمِّم لقمة عيش أطفالها تحت جُنح الظلام.
يعيش الكثير من سكان قطاع غزة هذا الكابوس، ففي غزة، بين أنقاض البيوت المهدمة ومخيمات النزوح التي تغطي الشوارع، تتحرك القوارض بلا خوف، تتكاثر كأنّها وجه آخر للحرب، لا تقلّ ضراوةً ولا إيلامًا. تتسلل إلى الخيام كما يتسلل الخوف إلى القلوب، ناشرةً مزيدًا من الرعب في حياة لم تعد تحتمل المزيد.
في مخيم إيواء للنازحين بخان يونس جنوب قطاع غزة، حيث تتداخل الخيام مع أكوام القمامة، تصف سائدة قديح (48 عامًا) المكان ساخرة بأنّه "مملكة الفئران". تُخصص جزءًا من مصروفها الشحيح لشراء السموم، رغم معرفتها بأنّ فعاليتها محدودة.
"في اليومين الماضيين، قتلت سبعة فئران... أو ربما ثمانية. نسيت العدد!" تقول وهي تفرك أصابعها المُتشققة. السؤال الذي يطارده الجميع هنا ليس "كيف" بل "إلى متى؟".
تُظهر الأرقام الرسمية تراكم أكثر من 175 ألف طن من النفايات تحت أنقاض مدينة غزة وحدها، فيما لا تقل فيه كميات النفايات المتراكمة في باقي المحافظات، سواء المخلاة كرفح والشمال أو المكتظة كالوسطى وخان يونس. ومع تدمير الصرف الصحي، باتت البيئة مثالية لتكاثر القوارض.
لا تقف خطورة الفئران عند حدّ التهام الطعام ومشاركته مع البشر قسرًا، بل تتعداها إلى ما هو أخطر. فبحسب مختصين في الصحة العامة، تلوّث القوارض الطعام بالبراز والبول، ما يفتح الباب لانتقال أمراض قاتلة، كالسالمونيلا التي تسبب التسمم الغذائي، ومرض الطاعون، وفيروس "هانتا" الذي يُنقل عبر استنشاق الجزيئات المتطايرة من بول الفئران.
كما أنّ "حمى عضة الجرذان" تخلّف وراءها طفحًا جلديًا وأعراضًا تحسسية حادّة، تنبع من هواء ملوّث بمخلّفات القوارض، مما يزيد من معاناة السكان، خاصة في بيئة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من شروط النظافة والسلامة.
عبد الله خليل (40 عامًا) يحمل في داخله سبب شخصي لكرهه الفئران. قبل ثلاثين عامًا، تعرّض لعضة من فأر بينما كان نائمًا في بيته بمدينة غزة. اليوم، يعيش في أنقاض ذلك البيت نفسه في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة، مُحاطًا بجرذان "بحجم القطط" على حدّ وصفه.
"جرّبت كل السموم في السوق، لكنّها تبدو كأنّك ترمي حفنة رمل في البحر"، يقول وهو يضع طُعمًا مسمومًا على كسرة خبز فوق قطعة كرتون. على الرغم من ذلك، يبقى مستيقظًا ليالي كاملة، مراقبًا أنفاس أطفاله خشيّة أن يزحف أحد تلك المخلوقات إلى جوارهم.
في زقاقٍ ضيق بسوق الصحابة وسط مدينة غزة، يصيح بائع: "سم فيران مضمون!" يُحيطه رجال ونساء يتفحصون العلب بعيون متشككة. الجميع يعرف أنّ بعض هذه السموم عديمة الفائدة، لكنّهم يشترونها على أمل المعجزة.
وبين الفينة والأخرى، تظهر في الأسواق بدائل مثل المصائد البلاستيكية أو الحديدية، وعلى الرغم من أنّها تُباع بتكلفة من 5-20 شيكلاً (2-5 دولار)؛ لكنّها تتحوّل إلى مجرد ديكور بعد أيام، حين تتعلم الفئران كيفية تجنبها.
رحاب عبد الله (50 عامًا) تُفضل المصائد اليدوية. بعد أن أنفقت معظم مُدّخراتها على أنّها سموم لم تُجدِ نفعًا، باتت تضع مصيدةً عند باب خيمتها كل ليلة. "قتلت واحدًا البارحة"، تقول باشمئزاز وهي ترفع كيسًا بلاستيكيًا به جثة فأر متصلبة. تُردف: "لكن الحرب لم تنتهِ... إنها فقط تنتظرنا عند منعطف الليل".
إذا كانت الفئران تمثل كابوسًا، فإنّ "العِرس" (الجرذان الكبيرة) هي تجسيد للرعب ذاته. صلاح أحمد (30 عامًا) من حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، يروي كيف هاجمته إحداها نهارًا أمام بيته المُدّمر.
"كادّت أن تقفز على وجهي!" يقول رافعًا حاجبيه والرعب يتملكه، وهو يشير إلى مياه الصرف الصحي المتجمعة أمام أنقاض منزله، والتي أصبحت مأوى لتلك الكائنات. منذ ذلك الحين، يعاني من نوبات هلع بمجرد رؤية ذيلٍ يختفي بين الركام.
حسني مهنا، الناطق باسم بلدية غزة، يؤكد أنّ فرق البلدية تعمل على رش المبيدات حول مراكز الإيواء وحاويات القمامة، لكنّه يعترف بأنّ هذه الجهود "قطرة في محيط"، معيدًا السبب إلى الحصار وإغلاق المعابر الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
يقول مهنا في حديثٍ لـ "آخر قصة": "إسرائيل تمنع دخول المبيدات الفعالة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023". مما اضطر السكان إلى الاعتماد على بدائل محلية ضعيفة لا تتناسب مع حجم المشكلة المتفاقمة، بينما تتحوّل غزة تدريجيًا إلى مختبرٍ لتكاثر كائنات لا تعرف حدودًا.
يمثّل منع "إسرائيل" إدخال المبيدات والمواد الكيميائية الخاصة بمكافحة القوارض والحشرات لقطاع غزة، انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي، وفقًا لما يؤكده المحامي طارق الزر، الذي يشير إلى أنّ هذا المنع يخرق نصوصًا قانونية دولية، وعلى رأسها المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي تكفل الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة، بما في ذلك بيئة نظيفة وآمنة.
وكذلك ينتهك الاحتلال نصّ المادة 11 من البرتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي تضمن للإنسان الحق في العيش في بيئة صحية؛ لكن في قطاع غزة، حيث تُترَك المواثيق الدولية كحبرٍ على ورق، تظلّ الفئران تزحف على واقع الناس، باعتبارها "الحقيقة الأكثر قسوة".
نزار الوحيدي، المختص في الشؤون البيئية، يُحذر من تدّاعيات أبعد من الأمراض. فضلات الجرذان، كما يقول، لا تلوّث الطعام فحسب، بل تمتدّ آثارها إلى التربة والمياه الجوفية، وتصل حتى البحر، حيث تُسهم في تلوث النباتات والمياه، وتُلحق أضرارًا بيئية وصحية على المدى القريب والبعيد.
"هي خطرٌ على جودة الهواء، وعلى النظام البيئي بأكمله"، يضيف الوحيدي، مشيرًا إلى أن الجرذان تُحدث اختلالًا في التوازن البيولوجي، وتتسبب في تراجع التنوع البيولوجي، إذ تقضي على الطيور والدواجن وتُهدد بقاء أنواع عديدة من الكائنات الحية.
وبينما تُستخدم بعض السموم التجارية لمكافحتها، يرى الوحيدي أنّ هذه الوسائل غير فعّالة، بل تُشكل خطرًا مضاعفًا، خاصة على الأطفال، مؤكدًا أن المصائد الميكانيكية هي الحلّ الآمن والأكثر جدوى في الوقت الراهن.
إلى جانب الأثر البيئي، يترك انتشار الفئران ندوبًا أعمق على الصعيد النفسي، وفق ما يؤكده الأخصائي النفسي عرفات حلس، الذي يصف هذه الآفة بـ "المزعجة"، مشيرًا إلى أنّ الأمر، وفقًا لاطلاعه، تحوّل لدى كثيرين إلى فوبيا شديدة، تسببت بأعراض جسدية مثل الأرق، الإرهاق، والصداع.
ويشير إلى أنّ نسبة كبيرة من السكان تعاني من اضطرابات النوم، خوفًا من عضة فأر أو قلقًا من أن تسرق القوارض طعامهم، خاصة في ظلّ المجاعة التي يعيشها القطاع.
يقول حلس: "تزيد ظاهرة انتشار الفئران بأحجامها من الأعباء النفسية، فإلى جانب الخوف من الموت بالصواريخ، يخاف الكبار والصغار من الموت بعضة فأر في ظل انهيار المنظومة الصحية".
يواجه سكان غزة هذا العدو الصامت بمفردهم، فالفئران هنا لم تعد مجرد آفة، بل أصبحت واقعًا فرض نفسه، تشاركهم الخيمة والطعام، وتستنزف ما تبقى من صبرهم. بينما يدوّي صفير الطائرات في الأعلى، ينشغل آخرون بمراقبة الأرض، حيث تتحرك ظلال صغيرة تذكرهم بأنّ الحرب تأتي أحيانًا على أشكال عديدة.
موضوعات ذات صلّة:
الغزيون يكافحون البعوض بالخل والصابون!
هكذا أصابت الحرب بيئة غزة في مقتل
الناجون من الحرب قد تقتلهم النفايات
القوارض.. ضيف مكروه يهدد حياة سكان غزة
القوارض.. خطر يتربص بحياة النازحين في غزة
التعليقات