في مكتبٍ مخصص كمساحة عمل للعاملين عن بُعد، يجلس محمود جاد (34 عامًا) أمام شاشة حاسوبه. يبدو توتره جليًّا من حركة أصابعه المضطربة على كيبورد الحاسوب بينما يحاول إنهاء ملف تصاميم خاص بعميل قبل أن يُغلق المكان أبوابه في الخامسة مساءًا. "العمل هنا لم يعد مجرد وظيفة"، يقول وهو يمسح جبينه المتعرِّق. "أحيانًا أظلّ لساعات إضافية فقط لأهرب من التفكير فيما إذا كان أطفالي سيجدون ما يأكلونه اليوم أم لا".
يعمل جاد الذي يقطن في حي الجلاء وسط مدينة غزة، كمصمم جرافيك لدى شركة في إحدى دول الخليج العربي عن بُعد؛ لكنّه يُعاني من صعوبة مواصلة العمل بكفاءة عالية، جرّاء طول أمد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتدّاعياتها المتواصلة، من تكرار عمليات النزوح وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكلٍ غير مسبوق الناتج عن الحصار المفروض بفعل إغلاق المعابر.
جاد ليس الموظف الوحيد في هذه المعاناة في غزة، فوفقًا لدراسة شملت 667 عاملًا في القطاع الصحي، يعاني 52% منهم من إجهاد عاطفي شديد، بينما أفاد 25% بتبلد المشاعر، و40% بانخفاض الإحساس بالإنجاز.
وتصبح الأرقام أكثر قتامة عندما نعلم أنّ أكثر من ثلثي هؤلاء لا يحصلون على أيّ دعم نفسي. هذه ليست إحصاءات مجردة، بل قصص يومية لمدرسين وأطباء وموظفين حكوميين تحوّلت حياتهم إلى سباقٍ محموم بين البقاء على قيد الحياة وإنجاز العمل.
في الطابق الثاني من عيادة طبية حكومية، تُمسك ريم عياد (30 عامًا) بجهاز تسجيل المرضى بينما تهتز الأرض تحت قدميها بسبب انفجارٍ قريب. "في الشهر الماضي، قُتِل ثلاثة من زملائي في قصف لمستشفى مجاور"، تقول بهدوءٍ مُريب. "لكننا نعود للعمل في اليوم التالي كما لو كان شيئًا طبيعيًا".
هذا التكيُّف القاسي هو ما يُسميه الخبراء "آلية بقاء"، حيث يتحوّل الإرهاق المزمن إلى وسيلة للتعامل مع واقع لا يُحتمل.
المُعالجة النفسية أروى أحمد، تشرح هذه الظاهرة بقولها: "الدماغ البشري مصمم للبحث عن الاستقرار، عندما تكون البيئة الخارجية كارثية بشكلٍ مستمر، يبدأ الموظف في اعتبار الإرهاب اليومي جزءًا من عمله الروتيني".
وقد تمنح هذه الآلية العاملين القدرة على الاستمرار مؤقتًا؛ لكنّ الثمن الذي يدفعونه لقاء ذلك باهظ؛ إذ تبين في دراسةٍ نشرتها مجلة "لانسيت" أنّ 72.9% من العاملين في القطاع الصحي الفلسطيني يعانون من درجاتٍ مُتقدمة من الاحتراق الوظيفي، مع مستويات قياسية من الإجهاد العاطفي (44.2%) وانخفاض الإنتاجية (72.2%).
في مبنى محترق نتيجة قصفٍ إسرائيلي بحي التفاح شرق مدينة غزة، يحاول يوسف أبو هنا (40 عامًا) إصلاح لوح طاقة شمسية متضرر من الرصاص يعمل عليه في شحن الهواتف والبطاريات بمقابل، كبديل للكهرباء بعد انقطاعها التام منذ أكتوبر 2023 عن قطاع غزة، يقول: "العمل الإضافي لم يعد خيارًا، بل ضرورة للبقاء".
يوضح أبو هنا الذي يعمل في الأساس كمدرس كيمياء في القطاع الحكومي أنّ أسعار السلع الأساسية ترتفع يوميًا بشكلٍ مستمر. "الراتب الذي أتلقاه عبر حسابي البنكي وأضطر لدفع عمولة لسحبه عبر وسطاء تصل إلى 40% لم يعد يكفي لشراء عدس لإطعام أطفالي"، يقول وهو يستذكر فاتورة مُشترياته التي ارتفعت بنسبة 300% منذ بداية الحرب.
تقول المختصة النفسية أنّ هذا الواقع الاقتصادي هو الوقود الذي يُغذي دائرة الاحتراق الوظيفي للعاملين. إذ تُشير تقارير صادرة عن برنامج الأغذية العالمي إلى أن 96% من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي، بينما قفزت معدّلات البطالة إلى 80%.
تضيف المختصة أحمد: "في هذا الواقع، يصبح العمل الإضافي ليس وسيلة للتقدُّم الوظيفي؛ بل محاولة يائسة للحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار المالي، أو حتى لدى البعض محاولة لتوفير قوت يوم عائلاتهم فقط".
سارة منير (28 عامًا)، موظفة في منظمة إغاثة دولية، تروي كيف تحوّلت ساعات عملها من 8 إلى أكثر من 10 ساعات يوميًا. "في البداية، كنت أشعر أنّ العمل يحميني من التفكير في القصف"، تقول.
تُردف بشيء من الحزن: "الآن، حتى عندما أكون في المنزل، عقلي لا يتوقف عن الدوران حول المهام المُعلّقة". ويصف علماء النفس هذه الحالة بـ "اليقظة الدائمة" (Hypervigilance) التي تجعل الجسم في حالة تأهبٍ دائم؛ مما يؤدي إلى استنزاف جسدي ونفسي.
يرتبط تفسير علم النفس بما كشفه تقرير صادر عن جمعية الأطباء النفسيين في غزة أنّ 66% من السكان يعانون اضطرابات نفسية مرتبطة بالحرب، مع معدلات قلق تصلّ إلى 60% بين الأطفال والنساء. أمّا الأكثر إثارة للقلق هو أن 48% من الموظفين يعانون من ضغوط مزمنة تؤثر على قدرتهم حتى على اتخاذ أبسط القرارات اليومية.
في ظلّ هذه الظروف، يُقدم الخبراء مجموعة من التوصيات العملية التي يمكن أنّ تُشكِّل فرقًا:
واخيرًا يقول الخبراء أنّ الاحتراق في زمن الحرب ليس فشلًا فرديًا، بل نتيجة طبيعية لوضع غير طبيعي. أما التعافي يبدأ عندما نوقف إلقاء اللوم على أنفسنا، ونعترف بأنّ الاستمرار في العمل تحت القصف هو بحدّ ذاته إنجاز لا يقلّ عن معجزة.
موضوعات ذات صلّة:
انتهاك حقوق النساء العاملات يتضاعف تحت الحرب
العمل عن بعد: عائدات لا تغطي قائمة النفقات
ذوو الإعاقة يجبرون على العمل لمواجهة الجوع
العمل في زمن الحرب