غزة: من مساحات خضراء إلى بؤرة مُناخية ساخنة

غزة: من مساحات خضراء إلى بؤرة مُناخية ساخنة
غزة: من مساحات خضراء إلى بؤرة مُناخية ساخنة

ينهمك المزارع الفلسطيني رأفت حمدونة، البالغ من العمر 62 عامًا، بتقطيع الأخشاب من أشجارٍ مزروعة في محيط المنطقة التي نزح إليها، ويستذكر أراضيه التي امتدت على مساحة 176 دونمًا في بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، حيث كانت أشجار الحمضيات والزيتون تُزين المكان.

"كان الشجر جميلًا، ينمو بجهدنا ورعايتنا ويُدّر علينا محصولًا يكفينا لنهاية العام"، يقول بحسرة، بينما يحمل بين يديه قطعة خشبية ويُمرر أصابعه الخشنة على الخشب المحروق.

لكنَّ المشهد اليوم مُختلف تمامًا. منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، جرّف الاحتلال عشرات الآلاف من الدونمات في بيت لاهيا وبيت حانون وشرق جباليا شمال قطاع غزة، مُخلفًا دمارًا طال ما يُقارب 35 ألف دونم من الأراضي الزراعية.

وتُشير التقارير الرسمية المحلّية إلى أنّه لم يتبقَ اليوم سوى 10% من الغطاء النباتي في القطاع كلّه جرّاء الحرب وتدّاعياتها، أيّ حوالي 15 ألف دونم فقط من أصل ما كان يومًا ما حقولًا خضراء مزدهرة.

لم يكن التجريف العسكري هو العامل الوحيد وراء اختفاء المساحات الخضراء. فمع انقطاع الوقود والغاز، ومنع دخولهما عبر معابر قطاع غزة، وارتفاع سعر الحطب إلى 4 شواكل للكيلوغرام الواحد، اضطر آلاف الفلسطينيين إلى قطع الأشجار لاستخدامها حطبًا للطهي والتدفئة. 

عبد المنعم أحمد، أحدّ النازحين في خانيونس جنوب قطاع غزة، الذي اضطر لقطع الأشجار ظلّت تُزين بيته لسنوات، يقول إنّه لم يكن ليفعل ذلك لولا الحاجة الماسّة. "لم أكن أودّ المساس بالطبيعة، لكن في ظلّ ما نُعانيه، أصبح هذا الأمر مُباح"، يقول وهو يرتب قطع الخشب بجانب خيمته التي لا تتعدى مساحتها بضع أمتار. 

ما بدأ كتدمير اضطراري للزراعة تحوّل خلال أشهر قليلة إلى أزمة مناخية شاملة، حيث لم يقتصر الأمر على تجريف الأراضي فحسب، بل امتدت آثاره لتشمل النظام البيئي بأكمله. يقول المختص البيئي، محمد مصلح، إنَّ 60% من الغطاء النباتي في غزة قد تضرّر بشكلٍ كامل، في مساحةٍ تُقدّر بـ 151 كيلومترًا مربعًا. يتابع: "هذا ليس مجرد تدّمير للأشجار؛ بل هو تغيير كامل في جغرافية الأرض".

ويُوضح مصلح أنّ تدمير الغطاء النباتي يتسبب بمخاطر بيئية ومناخية كبيرة، منها تفاقم الاحتباس الحراري، وتآكل التربة، وتلوّث الهواء نتيجة حرائق الخشب؛ ما يُطلق غازات سامّة تُضرّ بالصحة والبيئة، إلى جانب خطر التصحر البيئي خاصّة في ظلّ شُح المياه، وكذلك تغيُّر أنماط هطول الأمطار، وزيادة العواصف الرملية والترابية، وارتفاع درجات الحرارة المحليّة.

وفي التفاصيل، أوضح مصلح إلى أنّ فقدان الأشجار يعني فقدان القدرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون؛ مما يفاقم أزمة الانحباس الحراري ويرفع درجات الحرارة. كما أنّ تآكل التربة الغنية بالعناصر الغذائية سيقلل من الخصوبة ومن إنتاجية المحاصيل لسنوات قادمة.

أمّا الأخطر من ذلك، حسب مصلح، هو تفاقم التطرُّف الحراري ف قطاع غزة؛ ما خلق سلسلة من الآثار الكارثية. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية فقد ارتفعت الوفيات المرتبطة بالحرارة بنسبة 40%، خاصة بين الفئات الأكثر ضعفًا مثل كبار السن والأطفال والنازحين في الخيام، الذين يعانون من نقص الأدوية والمأوى الآمن. 

كما سجل الدفاع المدني في غزة اشتعال 12 حريقًا تلقائيًا شهريًا بسبب الجفاف وموجات الحرّ الشديدة، مما يُهدّد حياة المزارعين وسكان المناطق الحدودية

 أمّا الزراعة، التي تُمثل شريان الحياة للكثيرين، فقد تضرّرت بشدة، حيث أفاد مزارعون محليون بفقدان30%  من غلة الخضروات بسبب الارتفاع القياسي في درجات الحرارة، مما يضرب الأسر المعتمدة على الزراعة المنزلية في صميم أمنها الغذائي. 

المهندس الزراعي مصطفى الفيومي يصف الوضع بأنّه "كارثي بكل المقاييس". فإلى جانب تدمير الحواجز الطبيعية التي كانت تحمي المحاصيل من الرياح، فإن اختفاء الأشجار أدّى إلى تفشي الآفات الزراعية بشكلٍ غير مسبوق.  

ويقول الفيومي: "الأشجار لم تكن مجرد نباتات، بل كانت نظامًا بيئيًا متكاملاً، إذ كانت توفر بيئة للكائنات المفترسة التي تتحكم في أعداد الحشرات الضارة. أما الآن، انهار هذا التوازن تمامًا".  

واتفق الفيومي مع مصلح في قوله إن التدهور السريع وغير المسبوق يدفع البيئة الزراعية نحو بيئة فقيرة جدًا من الناحية البيولوجية، نتيجة اختفاء الموائل الطبيعية، مما يهدد بفقدان أصناف محلية من النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة المتكيفة مع بيئة غزة. 

وقال: "هذا سيقود بالضرورة إلى زراعة أصناف محدودة وقليلة المقاومة للآفات والأمراض والتغيرات المناخية"، مما يجعل النظام الزراعي المستقبلي هشًا وغير قادر على الصمود أمام الأزمات.  

كما لوحظ بعد تدمير الغطاء النباتي تفشي العديد من الآفات الحشرية والفطرية بشكل وبائي في بعض المناطق، ويعود ذلك بحسب الفيومي إلى الانهيار السريع والمروع للتوازن البيئي، حيث كانت الأشجار تشكل بيئة معقدة تعيش فيها كائنات نافعة تقضي على الآفات الزراعية. بتدمير هذه البيئات، فقدت الآفات أعداءها الطبيعيين بشكل شبه كامل.  

بالإضافة إلى ذلك، امتدّت آثار قطع الأشجار إلى المساس بالسلة الغذائية والهوية الزراعية لقطاع غزة، وفقًا للمهندس الفيومي، وكذلك حرمان السكان من الغذاء المناسب خاصّة في ظلّ الاحتياج الشديد بعد تفشي المجاعة وارتفاع معدّلات انعدام الأمن الغذائي بين أوساط السكان لما يزيد عن 90%.  

وتُشير التقديرات الاقتصادية المحلية إلى أنَّ الخسائر المباشرة في المساحات الخضراء تصلّ إلى 19 مليون دولار، بينما تُقدَّر الخسائر اليومية الناتجة عن توقف الإنتاج الزراعي بـ 106 مليون دولار. وإجمالًا، تجاوزت خسائر القطاع الزراعي 180 مليون دولار منذ بدء الحرب. 

على الرغم من الدمار الهائل، لا يزال بعض المزارعين يحاولون بشكلٍ فردي إنقاذ ما تبقى. فيما ينصح الفيومي لتعافي قطاع الزراعة، بالبحث عن بذور محلية مقاومة، والزراعة في المساحات المتاحة والآمنة مثل أسطح المنازل التي لم تُدمر، أو في أوعية صغيرة داخل المنازل أو المخيمات، باستخدام التربة المتاحة. 

كما يؤكد على أهمية التركيز على الزراعات الموسمية السريعة لإنتاج محاصيل توفر الحد الأدنى من الغذاء، قائلاً: "علينا البحث عن بذور محليّة مقاومة، والزراعة الموسمية السريعة لتأمين الحدّ الأدنى من الغذاء".

لكن التحدّيات التي تقف أمام المزارعين كبيرة. فبالإضافة إلى نقص البذور والمياه، فإنّ استمرار القصف يجعل أيّ محاولة للزراعة في الأراضي المفتوحة مغامرة محفوفة بالمخاطر.

من الناحية القانونية، يرى المحامي رامي محسن أنّ تجريف الأراضي الزراعية يعد انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي. فالمادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف تحظر تدمير مصادر الغذاء، كما أنّ المادة (55) تُلزِم القوات المحتلة بحماية البيئة وتحظر الممارسات العسكرية التي تُضرّ بها. 

وفي تقريرٍ صادر عن مركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (2024)، أكدَّ على أنّ تدمير القطاع الزراعي في غزة يعد جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. "هذا ليس تدميرًا للأشجار فقط، بل هو هجوم على قدرة الناس على البقاء"، يقول محسن.  

اليوم، مع اختفاء المساحات الخضراء في قطاع غزة، وانتشار الغازات السامة من الحرائق اليومية للخشب جرّاء إشعال نار الطهي، أصبح السكان محاصرين ليس فقط بالحرب، بل أيضًا ببيئة تتحوّل إلى مكان أكثر قسوة يومًا بعد يوم. 

تبقى غزة أمام معضلة وجودية: فبينما تحاول الأيادي المنهكة إنقاذ ما تبقى من خضرة، يتساءل الجميع - مختصون ومواطنون - هل ستستعيد هذه الأرض عافيتها يوماً؟ الإجابة تكشف مأساةً زمنية: حتى لو توقفت الحرب اليوم، فإن استعادة النظام البيئي قد تستغرق جيلاً كاملاً (20-30 عاماً) وفقاً لتقرير الأمم المتحدة للبيئة 2024.

هذا الواقع المرير يضع السكان أمام اختبار قاسٍ: التكيف يومياً مع موجات حر قاتلة وليالٍ متجمدة، بينما تتراكم تداعيات بيئية تهدد بتحويل الكارثة المناخية إلى تراجيديا إنسانية ممتدة. السؤال الأصعب الآن ليس عن زمن التعافي، بل عن إمكانية البقاء حتى يحين ذلك الزمن.

موضوعات ذات صلّة:

لماذا يفشل المزارعون في إحياء حقولهم؟

هكذا أعادت الحرب الزراعة للعصر الحجري

غزة: التحطيب الجائر يُقلِّص مساحة الأراضي الزراعية 

هكذا أصابت الحرب بيئة غزة في مقتل   

قطاع غزة: أرض الإبادة البيئية

الحرب على الأشجار.. أرقام وحقائق

المدينة الرمادية