في خيمةٍ صغيرةٍ أُقيمت فوقَ أنقاض منزلها المدّمر بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، تقفُ ندى حامد، طالبة الثانوية العامة، تتأمل دفتر ملاحظاتها الذي لطالما امتلأ بتلخيصاتٍ دقيقة للمواد الدراسية في سنواتٍ خلَت.
أما اليوم فتبدو غريبة عن هذا المشهد، إذ لا تستطيع متابعة دروسها التعليمية عبر خاصية التعليم الإلكترونية الذي فرضته تدّاعيات الحرب نتيجة تدمير المدارس وتحول بعضها إلى مراكز لجوء.
ونتيجة الانقطاع الدائم للإنترنت؛ علّقت ندى مسيرتها التعليمية في مرحلةٍ مصيرية، إلى أجلٍ غير مسمى. تقول بحزن وحسرة: "كنت أنتظر وصولي إلى هذه المرحلة بفخر وشغف شديد، فأنا أول فرد من عائلتي يصلّ للثانوية العامة؛ لكن غياب الإنترنت في منطقة سكني حال دون استكمال دراستي".
لم تكتفِ ندى بالمحاولة عبر استثمار وصول الانترنت المحدود عبر حزم الهاتف، بل لجأت إلى الاتصال مرارًا بالرقم المجاني لوزارة التربية والتعليم، لكن باءت جميع محاولاتها بالفشل.
ندى، التي كانت تسكن في منزلٍ متواضع قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، تجد نفسها اليوم بلا مأوى ولا قدرة على دفع تكاليف الإنترنت باهظة الثمن. فبعد الحرب، ارتفعت تكلفة تركيب الإنترنت في غزة إلى أكثر من 200 دولار، إضافة إلى رسوم الاشتراك الشهري التي تتراوح بين 50 إلى 80 دولارًا، وهو مبلغ يفوق قدرة الكثير من العائلات النازحة خاصّة بعد تفاقم أزمتي الفقر والبطالة في أوساط الأسر الغزية بشكلٍ غير مسبوق.
بحسب بياناتٍ محليّة، فإن أضرار الحرب الإسرائيلية على غزة (أكتوبر 2023- يناير 2025)، على قطاع الاتصالات، قُدِّرت بحوالي 90 مليون دولار، مما أدى إلى ارتفاع أسعار خدمات الإنترنت البديلة بنسبة 300%.
هذا الانهيار في البنية التحتية ترك آلاف الطلبة خارج دائرة التعليم، في ظلّ عجز الأسر عن تحمّل الأعباء المالية المتزايدة. فحال ندى لا يختلف عن حال آلاف الطلبة في غزة، الذين يعانون عدم توفر الإنترنت أو حتى الهواتف الذكية لمتابعة تعليمهم عن بُعد، خاصة في ظلّ النزوح المستمر وصعوبة توفير أبسط مقومات الحياة.
وبينما يتمكن أبناء العائلات ذوات الدخل المتوسط إلى المرتفع من متابعة دراستهم عبر الإنترنت دون عوائق، يجد الطلبة من الأسر الفقيرة أنفسهم خارج المنظومة التعليمية.
الصكوك القانونية الدولية، أكّدت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ التعليم حق أساسي من حقوق الإنساني، ويضمن قانون حقوق الإنسان الدولي والذي اعتمد عام 1948 الحق في التعليم، وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 26 على أن "لكل شخص الحق في التعلم"، ومنذ ذلك الحين، أٌعترف بالحق في التعليم على نطاق واسع وطورته عدد من الصكوك المعيارية الدولية التي وضعتها الأمم المتحدة، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية اليونسكو لمكافحة التمييز في مجال التعليم.
وأُعيدَ التأكيد عليه في المعاهدات الأخرى التي تغطي فئات محددة (النساء والفتيات والمعوقين والمهاجرين واللاجئين والسكان الأصليين، الخ) أو سياقات أخرى (التعليم أثناء النزاعات المسلحة)، كما وأُدرج في مختلف المعاهدات الإقليمية، وكُفل كحق في الغالبية العظمى من الدساتير الوطنية.
بمقابل ذلك، قالت وزارة التربية والتعليم إنّها تتابع الأزمة، إذ أوضح صادق الخضور، المتحدث باسم الوزارة، أنّ هناك تعاونًا مع شركات الاتصالات لتوفير نقاط اتصال مجانية، خاصة في مراكز الإيواء داخل المدارس؛ لكنه أقرّ بأن هناك مناطق لا تزال تعاني انعدام الاتصال، فيما تعمل الوزارة على تزويدها بمراكز تعليمية بديلة.
رغم إطلاق العام الدراسي الجديد 2024- 2025 افتراضيًا وافتتاح مراكز تعليمية، فإن الفجوة التعليمية لا تزال واسعة، إذ لم يستفد من هذه المراكز سوى 11 ألف طالب من أصل 300 ألف مسجل؛ ما يكشف ضعف الحلول المتاحة.
باسل الدهدار، (16 عامًا) طالب آخر وجدت نفسه محرومًا من التعليم بسبب عدم امتلاكه هاتفًا خلويًا، وعدم قدرة عائلته على توفيره. حاول باسل الالتحاق في مدرسةٍ قريبة من مكان نزوحه في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، لكنه فوجئ بأنّ التسجيل يتطلب متابعة التعليم الإلكتروني أولًا.
باسل الذي شغل عدّة أعمال خلال الحرب لمساعدة والده في توفير دخل للأسرة، كان يطمح بوقف إطلاق النار وعودة الحياة لطبيعتها والعودة إلى مقاعد الدراسة التي كان يحلم بها، يتساءل غاضبًا: لماذا لم توفر الوزارة بدائل للطلبة في غزة؟"، بعدما عاد إلى خيمته وباءت محاولاته باستعارة هاتف من أحد الجيران بالفشل.
مجد أبو غالي، طالبة في الصف الحادي عشر، تواجه مشكلة أخرى. فبعد عودتها إلى معسكر جباليا من نزوحٍ طويل جنوب قطاع غزة، اكتشفت أنّ منطقتها تعاني انقطاع تامّ للخدمات، وأنّ تكلفة المواصلات باهظة وغير متوفرة بشكل دائم، ما يجعل تنقلها من جباليا إلى مدينة غزة للدراسة أمرًا مستحيلًا.
بالكادّ تستطيع عائلة مجد توفير الغذاء اليومي وتعتمد على المساعدات الإنسانية التي تُقدمها المؤسسات الدولية بعدما فقد والدها مصدر دخله قطاع الإنشاءات في الحرب، فما بالك بتكاليف الإنترنت أو شراء جهاز ذكي لمتابعة الدروس؟ تقول بتنهيدةٍ طويلة: "أشعر أنّ التعليم أصبح للأغنياء فقط، نحن الفقراء حُرمنا من حقنا الأساسي في التعلم".
في الأثناء، أشار المتحدث باسم الوزارة "الخضور" إلى أن المنصة الإلكترونية الخاصة بالوزارة تعمل ضمن سياقين: "متصل – غير متصل"، كما وفرت الوزارة 100 اختبار إلكتروني لتمكين الطلبة من الدراسة الذاتية، لكنّ الواقع يُشير إلى أنّ هذه الحلول لا تُلبي حاجة جميع الطلاب، خاصة أولئك الذين لا يملكون الأجهزة اللازمة.
ولأن هذا الواقع يتنافى مع حق الطلبة الأساسي في الحصول على التعليم، أوضح المحامي علي الجرجاوي أنّه وفقًا للمادة 24 من القانون الأساسي الفلسطيني لعام 2003، فإنَّ التعليم حقّ لكل مواطن، وإلزامي حتى نهاية المرحلة الأساسية، لكنّ على أرض الواقع، تواجه الأسر صعوبات هائلة في توفير الحدّ الأدنى من متطلبات التعليم.
ويرى الجرجاوي أنّ الحق في التعليم مكفول قانونيًا، وكان لِزامًا على الوزارة في غزة والضفة الغربية وضع خطط واضحة أثناء الحرب لضمان عودة الطلبة إلى الدراسة؛ لكنّه عبر عن أسفه نتيجة غياب هذه الخطط.
بدوره، أشار المختص التربوي أشرف كحيل إلى أنَّ العملية التعليمية في غزة تمرّ بتحدّيات كبيرة ومعقدة، فقد دمّرت الحرب الأخيرة البنية التحتية التعليمية بشكلٍ شبه كامل، حيث تعرضت أكثر من 90% من المدارس للتدمير أو الأضرار الجسيمة.
بالإضافة إلى ذلك، يقول كحيل إنّ هناك نقص حادّ في الأجهزة الإلكترونية والإنترنت، مما يجعل التعليم الإلكتروني غير متاح للكثير من الطلبة. كما أن هناك آلاف العائلات التي لا تزال تعيش في المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء، مما يعيق عملية إعادة فتح المدارس للتعليم الوجاهي.
ويردف كحيل: "التعليم في غزة يعيش حالة انهيار منذ خمس سنوات، بدءًا من جائحة كورونا وصولًا إلى الحرب الأخيرة، حيث أصبح الترفيع الآلي هو الحلّ الوحيد. التعليم الإلكتروني قد يكون خيارًا، لكنّه لا يسدّ الفجوة، لأن معظم العائلات عاجزة عن تأمين الإنترنت أو الأجهزة اللازمة".
وبين محاولات طلبة غزة لمواصلة تعليمهم رغم النزوح وانقطاع الإنترنت، وتحدّيات الحكومة في توفير حلول مُستدامة، تبقى آلاف العائلات في معركة يومية لتأمين هاتف أو نقطة إنترنت، خوفًا من خسارة عام دراسي آخر لأبنائهم.
وفي ظلّ غياب سياسات واضحة، يتحول التعليم في قطاع غزة إلى رفاهية لا يتمتع بها سوى من يستطيع تحمل تكاليف الإنترنت والهواتف الذكية، بينما يُحرَّم منه من لا يملك سوى حلم التعلم ومستقبل بات أكثر غموضًا.
موضوعات ذات صلّة:
غزة: بدائل هشة لاستئناف العملية التعليمية
فرص انعاشه هشة: مستقبل التعليم في غزة مجهولاً
الأمل المنهوب: عن تأثير الحرب على التعليم بغزة
أطفال غزة يواصلون تعليمهم رغم الحرب
البيئة التعليمية في غزة