نساء غزة: عن تحدي الإنجاب القسري والحكم الشرعي

نساء غزة: عن تحدي الإنجاب القسري والحكم الشرعي

لم تتعافَ دينا حسن (26 عامًا) بعد من آلام حملها الأول حتى وجدت نفسها مُجبرة على حمل ثانٍ بضغوطٍ كبيرة من زوجها. كان طفلها الأول، الذي جاء إلى العالم في سبتمبر 2023، بمثابة فرحة كبيرة لها وللعائلة، لكن الحمل الثاني جاء كعبء ثقيل على جسدها الضعيف. 

تعيش دينا في خيمةٍ صغيرة مع زوجها المتعطل عن العمل بعد أن فقدا منزلهما في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، تقول بصوتٍ خافت مليء بالحسرة وهي تحاول حمل جالون ماء إلى خيمتها: "الحال صعب، والعيشة متعبة، ومع الحمل الوضع أصبح أقسى".

حاولت هذه السيدة مرارًا إثارة النقاش مع زوجها حول تأجيل الإنجاب، لكن تهديده بالانفصال جعلها ترضخ لرغبته، فيما تعاني الآن من سوء التغذية؛ مما أثر على صحتها وصحة جنينها إثر انعدام مصادر التغذية في ظل العجز عن شراء الاحتياجات الأساسية نتيجة الغلاء المعيشي.

تمسك دينا سنارة بين يديها تغزل بها ملبوسًا صوفياً لجنينها، وتكتم عبرتها وهي تقول: "فقدنا جهاز أخيه كاملًا في القصف (جهاز المولود هو الكسوة الخاصة به)، كان لديه أكثر من 100 قطعة ملابس ستكفيهم معًا، أما اليوم لا أستطيع توفير ثمن قطعة واحدة للمولود القادم بعد تغير الحال، ولا أعرف كيف سنوفر تكاليف إعالتهم معًا".

وفي قطاع غزة، الذي تقلصت مساحته بفعل الدمار الهائل، يصل معدّل الكثافة السكانية إلى أكثر من 5,400 فرد في كل كيلومتر مربع، مما يزيد من الضغط على الموارد المحدودة ويؤثر سلبًا على جودة الحياة والخدمات الصحية المتاحة للنساء.

أمام هذا الواقع، تتشابك التقاليد الاجتماعية مع التحدّيات الاقتصادية والإنسانية، وتجد النساء أنفسهن في مواجهة ضغوط متعددة تتعلق بالإنجاب، وفقًا لشهادات العديد منهن.

وفي ظلّ الحصار المستمر والأوضاع المعيشية المتردية، تواجه النساء خيارات صعبة تتعلق بصحتهن الجسدية والنفسية، بينما يبقى قرار الإنجاب غالبًا في معصم الرجل أو عائلته؛ ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان الإنجاب في غزة صراعًا ديمغرافيًا أم نتيجة هيمنة ذكورية مجتمعية؟

استطلعت مراسلة "آخر قصة" أراء 15 سيدة في عيادة تتبع لمنظمة (أونروا) بغزة، كن ينتظرن دورهن للمتابعة مع طبيبة نسائية، وجميعهن أكدن أن الزوج هو المتحكم الرئيسي في قرار الإنجاب، بينما رأت بعضهن أن عائلة الزوج تفرض أيضًا هذا القرار بدافع زيادة عدد أفراد العائلة والمباهاة بها وفقًا للسياقات الاجتماعية والثقافية، مما يبرز تأثير العادات والتقاليد على حقوق النساء في اتخاذ قراراتهن.

هديل خالد واحدة منهن، والتي كانت قد اضطرت إلى النزوح من رفح جنوبًا إلى بلدة الزوايدة وسط القطاع مشيًا على الأقدام، فباغتتها آلام اعتقدت أنّها طبيعية نتيجة الظرف الذي مرّت به؛ لكن تبين خلال المراجعة الطبية العاجلة، أنها مصابة بنزيفٍ حادّ جرّاء حملها في الشهر الرابع.

منذ اللحظة الأولى كان قرار الطبيب المتابع لحالة هديل واضحًا وهو إجهاض الجنين حفاظاً على حياتها؛ لكن الزوج كان له رأي مختلف، حيث رفض قطعًا قرار الطبيب غير آبهٍ بخطورة الوضع الصحي لزوجته.

استمرت هديل في الحمل مرغمة، وهي تعيش في خيمةٍ مهترئة وتمارس نمط حياة بدائي أثقل كاهلها جسديًا ونفسيًا، تقول بحزنٍ يكسو وجهها: "بعد شهرين من المعاناة الشديدة، خضعت لعملية قيصرية اضطرارية في الشهر السادس من الحمل لإجهاض الجنين، وأخرى لاستئصال كتلة من الرحم، كما أخبرني الطبيب بعدم قدرتي على الإنجاب مرةً أخرى".

وخلال عام 2024 بلغ عدد النساء الحوامل 60 ألفاً، وكانت الحرب وسوء التغذية تهدد حياتهم بالخطر، فيما أفاد تقرير للأمم المتحدة في يناير 2025 إلى أن هناك حوالي 155 ألف امرأة حامل ومرضعة في غزة، وحوالي مليون امرأة تعيش في مخيمات النازحين، مما يزيد من تعقيد الأوضاع الصحية والتغذوية لهؤلاء النساء.

رئيس قسم التوليد في مجمع الصحابة الطبي، الطبيب محمد صالح، قال إنَّ الغالبية العظمى من النساء الحوامل يعانين فقر الدم وسوء التغذية؛ مما يزيد من احتمالية حدوث مضاعفات مثل الولادة المبكرة، والنزيف الحاد، والتسمم الحملي.

وبحسب صالح فإنّ الكثير من حوامل غزة يضعن مواليد ضعيفة الوزن نتيجة سوء التغذية للأم، إضافة إلى تعرضها مخاطر تضع حياة بعضهن على المحك، وتجعل الكثير منهن يقفن مكتوفي الأيدي أمام الخيار الطبي بضرورة عدم الإنجاب إلا بعد مرور أربعة أعوام على الأقل، حتى يتعافين من آثار هذا الحمل وذلك في أفضل الأحوال، وفق قوله.

خلال متابعة الطبيب صالح لبعض الحالات تبين أن النساء اللواتي كن يحملن في الطفل الأول، كانت تواجه معاناة شديدة ومضاعفة نتيجة عدم تلّقيها الغذاء الصحي والفيتامينات اللازمة كـ "الحديد والفوليك أسيد وأوميجا 3"، بسبب عدم توفرها لأشهر طويلة خلال فترة الحرب التي امتدّت خمسة عشر شهرًا.

ويُشكِّل الحمل المتكرر في ظلّ الأوضاع الصحية المتدهورة بغزة تهديدًا خطيرًا على حياة الأمهات، وفقًا للطبيب صالح، الذي أوضح أن غياب وسائل تنظيم الحمل المناسبة يفاقم هذه المخاطر، إذ يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل نقص الكالسيوم والضعف الشديد للأم، مما قد يتسبب في الإجهاض سواء بسبب المضاعفات الصحية أو عدم ثبات الحمل.

لم تكن ولادة أسيل الأحمد (36 عامًا) هذه المرة كأي ولادة سابقة، فقد أنجبت طفلها العاشر في غزة قبل أن تجبرها الحرب على النزوح، لتجد نفسها بعد أيام قليلة في خيمة بلا مقومات صحية وإنسانية، تكافح من أجل البقاء هي ورضيعها.

تقول السيدة التي كسا البؤس ملامح وجهها، وأضاف إليها سنوات من الشقاء جعلتها تبدو أكبر من عمرها بعشرين عامًا: "كل السنوات الماضية كانت صعبة، لكن هذا العام يفوقها جميعًا، إنه الأصعب على الإطلاق."

على مدار عشر سنوات من الزواج، أنجبت عشرة أطفال أي بمعدل طفل واحد سنوياً، استجابةً لإصرار زوجها الذي اعتبر ذلك "حقًا شرعيًا"؛ لكن حملها الأخير جاء في ظروفٍ مأساوية، إذ اضطرت إلى الفرار من مجمع الشفاء الطبي غرب غزة بعد ولادتها بخمسة أيام، متجهة جنوبًا سيرًا على الأقدام، مرورا بالحاجز الإسرائيلي، في ظروفٍ صحية خطيرة لا تتحملها امرأة نفساء.

تردف أسيل: "كانت صحتي سيئة للغاية، فلم أتمكن من إرضاع طفلي بسبب الجوع والضعف الشديد، وأصبحت أبحث عن المراكز الصحية أملاً في الحصول على الفيتامينات والمكملات الغذائية لإنقاذ نفسي ورضيعي وأطفالي الصغار أيضًا".

للوقوف على الرأي الشرعي بشأن إجبار الزوج لزوجته على الإنجاب، تحدثنا إلى المفتي عبد الباري خلة، المحاضر في كلية الدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، الذي أكد أن هذا الأمر محرم، خاصة إذا كانت الزوجة تعاني من الضعف وسوء التغذية.

وأردف خلة أن: "إكراه الزوجة على الحمل حرام، لأن ذلك قد يتجاوز طاقتها ويتسبب لها في مشقة غير محتملة فلا يجوز للزوج إجبار زوجته، بل ينبغي أن يكون القرار بالتشاور بينهما، فلا يُكلف الإنسان فوق وسعه."

ووفقًا للمفتي خلّة إذا كانت المرأة قادرة على الإنجاب، فلا يجوز لها الامتناع عنه دون مبرر، لكن في حال كانت تعاني من مرض، أو ظروف الحرب، أو سوء التغذية، أو عدم القدرة على مراجعة الأطباء، فهنا يجب على الزوجين التشاور بما يضمن مصلحة الأسرة بأكملها.

كما يحق للزوج أن يسمح لزوجته باستخدام وسائل منع الحمل، بحسب خلّة، وذلك سواء كانت الوسائل طبيعية أو طبية، حفاظًا على صحتها، لأن الحمل في هذه الحالة قد يشكل خطرًا على حياتها.

بالإضافة إلى ذلك، وتعقيبًا على حالة السيدة أسيل فقال خلّة، إن الشريعة الإسلامية لا تُلزم المرأة بالحمل المتكرر إذا كان يشكل خطرًا على صحتها، بل تحث على الحفاظ على حياة الأم وسلامتها.

هبة عمار، ثلاثينية وأم لأربعة أطفال رفضت الإنجاب مجددًا والرضوخ لإلحاح زوجها ووالدته، وذلك بسبب تدهور حالتها الصحيّة وإصابتها بارتفاع ضغط الدم وضعف المناعة.

لكنّ هبة لم تكن حرّة الاختيار، فقد تسبب رفضها وعدم استجابتها لقرار عائلة زوجها بالإنجاب تحت مبدأ "العزوة وزيادة نسل العائلة" بإثارة خلافات بينها وبين زوجها وعائلته، اضطرت على إثرها المكوث في منزل والدها إلى حين حلّ الخلاف؛ مما فاقم أزمتها الصحية والنفسية.

تؤمن الكثير من العائلات الفلسطينية بزيادة الإنجاب كجزء راسخ من الثقافة المجتمعية، إذ تنظر إليه باعتباره مصدرًا للفخر والقوة العائلية، دون اهتمام يُذكر بصحة الأم أو جودة حياة الأطفال وتعليمهم. وكثيرًا ما تُقاس مكانة الأسرة بعدد الأبناء، مما يزيد من الضغوط المفروضة على النساء، ويجبرهن على الإنجاب المتكرر دون مراعاة لوضعهن الصحي أو النفسي.

وحول التأثيرات النفسية لهذا الضغط المجتمعي، يوضح الأخصائي النفسي والاجتماعي عرفات حلس أن مطالبة النساء المستمرة بالإنجاب تترك أثرًا نفسيًا عميقًا، إذ تعاني كثيرات من القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة.

قال حلس: "تلقيت حالات لنساء فقدن الرغبة في الحياة بسبب الإحساس بالعجز عن اتخاذ قراراتهن الخاصة، مما أثر سلبًا على علاقتهن بأطفالهن وأسرهن".

يؤكد حلس، وهو أكاديمي وباحث في علم الاجتماع، أنّ الأسرة تقوم على شراكة متكافئة بين الزوجين، ومن الخطأ الفادح أن يكون قرار الإنجاب مفروضًا من طرف واحد، دون توافق أو مراعاة للظروف الصحية والاجتماعية للطرف الآخر، فيما يشير إلى أن العديد من الأزواج يطالبون زوجاتهم بالإنجاب حتى لو كان ذلك على حساب صحتهن ووقتهن.

وبحسب حلس تمتلك بعض النساء مبررات قوية لعدم الإنجاب، مثل ضيق الوقت، وتزايد متطلبات الحياة، والإرهاق الشديد، خاصة بعد الحرب التي أنهكت النساء جسديًا ونفسيًا. كما أن شعور المرأة بأنها مسلوبة الإرادة في قرار مصيري كهذا يؤثر على سلوكها ونظرتها لنفسها، مما يجعلها تعيش في حالة من الضغوط المستمرة التي قد تؤثر على حياتها بالكامل.

وما بين سطوة ذكورية وثقافة مجتمعية تُشجع على الإنجاب بكثرة وتداعيات الحرب الاقتصادية والنفسية، تجد نساء غزة أنفسهن محاصرات، مما يجعل قرار الإنجاب معقدًا ومشحونًا بالتحديات.

 

موضوعات ذات صلّة:

غزة: النساء الحوامل في خطر

صحة غزة: 60 ألف فلسطينية حامل بالقطاع يعانين من سوء التغذية

قرار في العتمة

أمهات: الحرب فرضت توقيت الولادة

غزة: هكذا تصبح الأرملة بطلة أدوار مستحيلة