في ليلة من ليالي يونيو 2024، بينما كانت القذائف تتساقط، والدخان يغطي المدينة، كانت أميرة علي (24 عامًا) -وهي فلسطينية نازحة في بيت والدها بحي الشجاعية شرق مدينة غزة-، تعاني آلاماً حادّة نتيجة المخاض.
في الخارج، كانت الطائرات المسيّرة تطلق رصاصاتها عشوائيًا، فيما تخوض أميرة معركة الألم دون رعاية طبية أو ماء. وزوجها يركض كالمجنون، يبحث عن أي وسيلة لإنقاذها، لكن الردود من المستشفيات كانت يائسة: "لا نستطيع الوصول إليكم". أربع ساعات مرت وكأنها دهر، حتى وجد أخيرًا عربة كارو يجرها حمار، ليحملها وسط الدمار. وحين وصلتْ إلى مستشفى الصحابة داخل المدينة، كانت بالكادّ تعي ما يدور حولها، وجسدها بارد، فيما وُلد طفلها وسط الفوضى والخطر.
أميرة ومثلها آلاف النساء الحوامل وحديثات الولادة في قطاع غزة واجهن أوضاعًا كارثية نتيجة الحصار الإسرائيلي والاستهداف المباشر للبنية التحتية الصحية؛ مما أدى إلى انهيار الخدمات الطبية الأساسية، وجعلهن في مواجهة مباشرة مع الموت.
في هذه القصة المدفوعة بالبيانات، سنكشف كيف تحولت الصحة الإنجابية إلى معركة أخرى في حياة النساء الغزيات، مدعومة بالإحصاءات والشهادات الحية.
مع استمرار عمليات القصف خلال الحرب الإسرائيلية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا، وتقييد حركة المرضى داخل قطاع غزة، تجد النساء أنفسهن أمام تحديات جسيمة، حيث يُجبرن على الولادة في ظروف غير إنسانية داخل مراكز الإيواء أو في المنازل دون إشراف طبي.
وجاء في تقرير صدر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان حول "تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية في ظلّ استمرار حرب الإبادة الجماعية وانعكاسها على الصحة الإنجابية" ازدياد خطورة الوضع مع معاناة 46,300 امرأة حامل من سوء التغذية ونقص الغذاء.
يتسبب هذا الأمر في كثيرٍ من الانتهاكات التي تعرضت لها النساء في تهديدٍ لصحتهن الإنجابية، ومنها رفع معدّلات الولادات المبكرة مما أدي إلى تراجع أوزان المواليد الجدد إلى أقل من 2.5 كغم بسبب سوء التغذية لدى الأمهات.
كما لم تزل تعيش أكثر من 557,000 امرأة في غزة تحت وطأة انعدام الأمن الغذائي، ما يجعل الحمل والولادة في القطاع ليس مجرد تجربة إنسانية، بل صراعًا يوميًا من أجل البقاء.
وسط ظلام الليل المثقل بأصوات القصف والانفجارات التي جعلت الأرض تهتز تحت أقدام النازحين، وجدت رنا نافذ (34 عامًا)، الحامل في شهرها السابع، نفسها تركض بلا تفكير، ممسكة بيدي طفليها بينما يركض زوجها بجانبها، وسط دمار كثيف يعيق الحركة. عن تلك اللحظة قالت: "لم يكن هناك وقت لجمع الأغراض، فقط غريزة البقاء دفعتنا للخروج".
وسط الركام والجثث، سارت لساعات حتى وصلت إلى مخيم مزدحم بالنازحين جنوب قطاع غزة. ومع تدهور الأوضاع، بدأت تشعر بآلام المخاض، لكن المستشفيات كانت معطلة والصيدليات خاوية. لم تجد سوى خيمة غير مهيأة، حيث ساعدتها قابلة مسنّة بإمكانيات شبه معدومة، وتحت ضوء مصباح خافت، وفي ظلّ الخوف والجوع، وضعت طفلها الثالث وسط بكاء شقيقيه.
الطبيب العام في عيادة العودة بجباليا محمد كلش، يصف أوضاع النساء اللواتي تلقين خدمة الولادة في العيادة خلال الحرب، أنّهن كن يأتين وعلامات التعب والهزال تبدو عليهن، فيما تكشف الفحوصات أنهن يعانين فقر الدم وسوء التغذية ومشاكل صحيّة، وتنخفض قدرتهن على الحركة ويجدن صعوبة في الولادة بشكلٍ طبيعي.
ويقول الطبيب كلش: "تضطر النساء الحوامل الحضور صباحًا باكرًا إلى العيادة بسبب حالة الخوف في الليل، وعدم القدرة على التحرك بسبب صعوبة المواصلات، وتبدو على وجوه النساء الحوامل حالة الإنهاك والإعياء من ألم المخاض طوال الليل".
وأشارت البيانات الواردة في التقرير الحقوقي إلى أنه من بين 1,000,000 امرأة وفتاة نازحة، كان هناك 155,000 امرأة حامل ومرضع دون رعاية، وفي ظلّ تدمير 80% من المستشفيات ونقص الأطباء والمعدّات الطبيّة كان إجراء عمليات قيصرية ضرورية أمر مستحيل؛ مما أدى إلى إجبار النساء على الولادة في الشوارع والملاجئ، ودون أدنى المعايير الصحية.
رغدة عبد الكريم (29 عامًا) اضطرت للولادة في مدرسةٍ تؤوي النازحين، تقول: "لم يكن هناك طبيب أو ممرضة، فقط نساء يحاولن مساعدتي، أنجبت طفلي على أرضية باردة، دون أدوية أو تعقيم، بعد الولادة عانيت من نزيف حاد كواحدة من تداعيات الولادة في ظلّ انعدام الرعاية الصحية".
ووفقًا لبياناتٍ محلية فإنَّ النساء والأطفال هم الفئات الأكثر تضررًا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ قُتلت الكثير من النساء خلال الحرب، بينهن نساء حوامل ومرضعات، وأصيبت عشرات أخريات، كما تعرضن لعنفٍ مضاعف جنسي وجسدي ونفسي.
وإدراكًا لحقيقة أن النساء تعاني من تحدّيات في الحصول على الرعاية الصحية والخدمات الأساسية أثناء النزاعات، قدمت المادة (27) في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، نصاً صريحاً بأنّ "الأشخاص المحميين في جميع الأحوال لهم الحق في احترام شرفهم، وحقوقهم العائلية، وعقيدتهم الدينية، وعاداتهم، وتقاليدهم". كما تحظر الاتفاقية جميع أشكال التعدي على النساء، وخاصة العنف الجنسي، والاستغلال، والتمييز، وأي شكل من أشكال الإهانة لكرامتهن الإنسانية. فيما تؤكد على حماية النساء ضدّ أعمال العنف أو التهديد أو سوء المعاملة والاضطهاد.
بدوره، يشدد المحامي المختص بالقانون الدولي، يحيى محارب، على أن منع وصول الرعاية الطبية للنساء الحوامل وانتهاك حقهن في الصحة الإنجابية يمثل "جريمة حرب" وفقًا لاتفاقيات جنيف. كما يشير إلى أنّ القوانين الدولية تفرض حماية خاصة للنساء أثناء النزاعات، وتلزم أطراف النزاع بعدم استهدافهن أو تعريضهن للعنف، فيما تؤكد القرارات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ضرورة احترام النساء وحمايتهن في مناطق النزاع.
ويقول محارب لـ "آخر قصة" إن القوانين الدولية الإنسانية توفر حماية للنساء أثناء الحروب من خلال منحهن الأمان وضمان عدم تعرضهن للاستغلال أو الاعتداء. وكذلك تُوجِب هذه القوانين تقديم الرعاية الصحية والطبية اللازمة للنساء، وخاصة الحوامل والمرضعات.
يردف محارب قائلًا: "استهداف المستشفيات وحرمان النساء من الرعاية الطبية هو انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي. يجب أن يكون هناك تحقيق دولي في هذه الجرائم لضمان محاسبة المسؤولين".
لكن يبدو أنَّ هذه النصوص القانونية لم تُراوح مكانها في ظلّ مقتل 11,979 امرأة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بينهن مئات النساء الحوامل، كما أصيبت عشرات النساء الحوامل بشظايا القصف، مما تسبب في إجهاض قسري أو مضاعفات قاتلة.
إلى جانب ذلك، فإنّ النساء الغزيات عانين خلال الحرب من نقصٍ في المستلزمات الطبية والتحاليل المخبرية، كما حدث مع تهاني عبد الرحمن (40 عامًا) تمامًا، إذ كانت تنتظر بفارغ الصبر مراجعة الطبيب بعد أن شعرت بأعراض الحمل، لكن الحرب قلبت حياتها رأسًا على عقب. أغلقت العيادات، وانقطعت الطرق، وتحوّلت أيامها إلى صراع مستمر مع الألم والخوف.
لم تتمكن تهاني من إجراء الفحوصات اللازمة، وعندما سنحت لها فرصة أخيرًا للوصول إلى مستشفى العودة شمال قطاع غزة، اكتشفت أن حملها كان عنقوديًا (يوجد خلايا حميدة في الرحم)، وهو ما استدعى تدخلًا طبيًا عاجلًا. ولكن حتى في تلك اللحظة الحرجة، لم تكن الأوضاع الطبية في صفها، فقد ضرب القصف المستشفى، وانهارت أعصابها من الرعب، واضطرت لإجراء الجراحة وسط برد المستشفى القارس ونوافذه المكسورة.
ظنت تهاني أن معاناتها انتهت، لكن الألم عاد بقسوة، ليصاحبها نزيف حاد اضطرها إلى البحث عن مستشفى آخر، لكن معظمها كان مغلقًا أو عاجزًا عن مساعدتها. بعد رحلة شاقة بين المستشفيات، أجرت عملية تنظيف ثانية دون تخدير، ثم بدأت رحلة جديدة للحصول على العلاج الكيماوي، الذي لم يكن متوفرًا إلا بشق الأنفس.
ومع ذلك، لم تتوقف معاناة هذه السيدة عند هذا الحد، إذ ما بقيت تعاني من دوخة وضعف حادّ بسبب سوء التغذية وانعدام الأدوية، وكانت بحاجة إلى فحص بالرنين المغناطيسي لتقييم حالتها، لكن الجهاز الوحيد في غزة أُحرق خلال اقتحام مستشفى الشفاء؛ ما جعلها تُعاني من المضاعفات حتى اللحظة.
تشير البيانات الصادرة عن مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أنّ توقف عمل المختبرات الطبية ونقص معدات التشخيص أدى إلى ارتفاع نسبة الولادات عالية الخطورة. كما تعذر كثيرًا خلال الحرب إجراء التحاليل الأساسية للأمهات مما زاد من المضاعفات، إضافة إلى ذلك فإنّ هناك حاجة إلى حوالي (10.3) مليون فوطة صحية شهريًا لـ (690,00) امرأة ومراهقة في غزة.
يعكس هذا الأمر حجم الاحتياجات الصحيّة التي تواجهها النساء في ظلّ انهيار النظام الصحي واستمرار القيود المفروضة على دخول الإمدادات الطبيّة والإنسانية، وفقًا لما أشار إليه الطبيب العام محمد كلش، الذي أكّد على أنّ الحرب الإسرائيلية فرضت حصارًا باستهدافها النظام الصحي في غزة؛ مما خلق أزمة إنسانية حادّة.
وقال الكلش إنّ تلك القيود أدّت إلى نقصٍ حادّ في الأدوية والمستلزمات الطبية، مما عقَد الرعاية الصحية للجرحى والمرضى، خاصة النساء الحوامل. وأردف: "عدم توفر الفحوصات المخبرية والمستلزمات الضرورية جعل الولادة أكثر خطورة، وأدى إلى تدهور صحة الأمهات والأطفال حديثي الولادة، كما أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي ونقص الوقود زاد من صعوبة تشغيل المعدات الطبية، مما أثر على تقديم الخدمات الأساسية في المستشفيات والمراكز الصحية."
إلى جانب ذلك، اضطرت منظمة "الأونروا" إلى إغلاق عياداتها في غزة وشمالها منذ 13 أكتوبر 2023، ما أدى إلى فقدان شريحة كبيرة من السكان لخدمات صحية حيوية، فمع اشتداد الحصار خلال الحرب، اضطرت النساء إلى الولادة في ظروفٍ غير آمنة، إذ وجدت العديد منهن أنفسهن دون رعايةٍ طبيّة تضمن سلامتهن وسلامة أطفالهن.
حين اندّلعت الحرب (أكتوبر, 2023)، كانت شيرين ناصر (34 عامًا) حاملًا في شهرها السابع، وتعتمد على أدوية ضرورية لحملها، لكنها فقدت الرعاية الطبية مع إغلاق الصيدليات والمستشفيات. تقول: "أصبت بفقر الدم والتعب الشديد، حتى ظهرت علامات الطلق المبكر"، فيما زاد النزوح وضعها سوءًا عندما تقدمت آليات الاحتلال الإسرائيلي نحو حيّ الشيخ رضوان حيث تقطن.
تردف المرأة والحزن يكسو وجهها: "لم يكن هناك طعام ولا دواء، فاضطر زوجي لشراء قشور القمح لصناعة الطعام، لكنها تسببت لي بمشاكل صحية"، ووسط الحزن والجوع، وضعت طفلها قبل أوانه بوزن 2.2 كجم، وعانى من نقص الأكسجين، لم تستطع إرضاعه بسبب الهزال، واضطرت للاعتماد على الحليب الصناعي وسط أزمة غذائية خانقة.
تقول المختصة النفسية نفين عبد الهادي إنّ النساء اللواتي يلدن في ظروف الحرب والقصف يعانين من مستويات عالية من القلق والتوتر المزمن، مما يزيد من خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب الحاد، إنّ الولادة في بيئة غير آمنة، مثل الخيام أو الشوارع، دون رعاية طبية، تؤدي إلى تعرضهن للمضاعفات الصحية والنفسية، وتفاقم الضغط النفسي لديهن".
بالإضافة إلى ذلك، فإن النساء اللواتي يواجهن هذه الظروف يعانين من صعوبة في تكوين رابطة عاطفية مع أطفالهن بسبب الإرهاق النفسي والجسدي، وتزيد البيئة المزدحمة والمحرومة من الخدمات الصحية من شعورهن بالعجز والرغبة في العزلة الاجتماعية، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لتقليل الأثر طويل الأمد على صحتهن النفسية والبدنية".
وتشير الإحصاءات المحلية إلى ارتفاع حالات الولادة المبكرة نتيجة الضغط النفسي والتغذية السيئة، كما تبين أنّ 70% من النساء اللواتي ولدن في الأشهر الأخيرة لم يحصلن على متابعة طبية قبل الولادة.
في ظلّ الانهيار الحادّ للخدمات الصحية، وغياب الرعاية الطبية الأساسية، لاسيما خلال الحرب أصبحت الولادة في غزة محفوفة بالمخاطر، إذ تعاني النساء الحوامل من جملة من الانتهاكات، ومع تدمير المستشفيات وتقييد وصول الإمدادات الطبية، تضطر كثير من النساء للولادة في ظروفٍ غير آمنة داخل الملاجئ أو المنازل؛ مما يعكس واقعًا صحيًا متدهورًا يستدعي تدخلاً عاجلاً.
موضوعات ذات صلّة:
غزة: هكذا تصبح الأرملة بطلة أدوار مستحيلة
بين السرطان والنزوح: أم تروي مأساتها
من وإلى الخيمة: لم تُعِد الخيمة للنساء خصوصيتهن
يتجرعن مرارة هائلة.. تعرف بالأرقام على معاناة نساء غزة خلال الحرب
مصائر مخيفة تتربص بحوامل غزة.. الموت أو الإجهاض أو الولادة المبكرة
المخاض في الحرب