لم تكن تلك الرصاصة الأخيرة سوى خاتمةٌ كتبها القدر بمداد من الظلم. لقد مزّقت جسده، لكنها لم تستطع أن تمزق ذاكرتي عنه. أبي... ذلك الرجل الذي علّمني كيف أحمل روحي بين كفيّ كطائر خائف، ثم تركني أطارح الموت وحيدةً لأحميه.
في ذلك اليوم، بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب، كأنها تخجل من سطوعها فوق مدينةٍ تئنّ تحت وطأة الحرب، سمعتُ صرخةً مزّقت صمتي: "الدبابات دخلت!" لم تكن صرخة إنذار، بل كانت صرخة وداع. وداع للأمان، للطفولة، للحياة كما عرفناها. أمسكتُ بيد أمي، وكانت يداها باردة كالثلج، بينما كانت يديّ ترتجفان كفراشة حاصرها الشتاء. قلتُ لها: "سأذهب لأحضر أبي". لم تكن جملة، بل كانت وصية.
أبي كان جالساً على كرسيه المتحرك، كعادته، يبتسم ذلك الابتسامة التي تشبه غروب الشمس في أيام الشتاء القصيرة. لكن هذه المرة، كانت عيناه تقولان شيئاً آخر. كانتا شكصديقين قديمين اكتشفا فجأة أنني لستُ جديرة بثقتهم. الرصاص كان يسقط حولنا كقطرات مطر غاضبة، وكأن السماء تبكي على شيء تعلم أننا لم نكتشفه بعد.
في "شارع الموت"، ذلك الشارع الذي اختاروا له اسماً يعرفونه جيداً، رأيتُ الطفلة الصغيرة تسقط. كانت ترتدي فستاناً وردياً، لونه يشبه لون زهور اللوز التي كان أبي يحبها. صرختُ: "ماما!" لكن الموت كان أسرع منها. التفتُ إلى أبي، فوجدته ينظر إليّ نظرةً تقول: "هذا مصيرنا جميعاً".
حاولتُ إنقاذه. حاولتُ بكل ما في روحي من قوة. لكن الحرب لا تعرف سوى لغة واحدة: الموت. أصابته رصاصة، وأصابتني بجرح لن يندمل. حملناه إلى المشفى، لكن الأطباء كانوا مشغولين بإنقاذ أرواحٍ أخرى. أبي لم يكن بحاجة إلى طبيب، كان بحاجة إلى معجزة. والمعجزات لا تحدث في زمن الحرب.
حين أخبروني بأنه "استشهد"، لم أصدق. كيف يستشهد أبي وأنا هنا؟ كيف يموت وأنا ما زلت أحبه؟ ذهبتُ إليه، فوجدته ملفوفاً بكفن أبيض، كأنه غيمةٌ قررت أن تستقر على الأرض. قالوا إنه نطق الشهادتين إحدى عشرة مرة قبل أن يغادر. إحدى عشرة مرة! كأنه كان يودعنا كلنا، واحداً واحداً.
حين أسمع أنباء عن هدنة أو وقف إطلاق النار، لا أشعر بشيء. لأن أبي لن يعود. لأن الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار، بل تنتهي عندما نستطيع أن ننسى. وأنا... لن أنسى أبداً.
إلى أبي، الذي علمني كيف أحب، وكيف أفقد الحب: "ستبقى فيّ... حتى عندما أكون أنا الأخرى ذكرى."
فقدان الأب في الحرب