الشلل الرخو في غزة: تفشٍ مقلق وسط الحرب

الشلل الرخو في غزة: تفشٍ مقلق وسط الحرب

فوجئ غسان الجايح، شاب في الثامنة والعشرين من عمره، بشللٍ تام اجتاح جسده في غضون أيام قليلة. بدأت الأعراض بخدر وتنميل في الأطراف، ثم انحدر حاله سريعًا إلى فقدان الحركة، فلم يبقَ له من القدرة الجسدية سوى حركة خفيفة في الرقبة.

يعمل الرجل بالحجامة، وهي طريقة علاج شعبي، ظنّ في البداية أن ما يشعر به ليس أكثر من إرهاق عابر. يقول وقد أنهكته التجربة: "في أول يوم شعرت بتنميل في يدي، فظننت أنه مجرد إرهاق، فقمت بعمل تدليك وحجامة لنفسي، لكن في اليوم التالي، بدأت رجلاي تخذلانني، ثم فقدت القدرة على المشي، وسقطت على الأرض".

نُقل الجايح على وجه السرعة إلى مستشفى ناصر الطبي، وأمضى خمسة أيام في العناية المركزة وسط تشخيصات متضاربة، بسبب غياب أدوات الفحص الدقيقة ونقص الأدوية. يصف قسوة المرض وغياب العلاج بأنّها الأصعب في حياته، ويقول بكلمات مقتضبة: "فجأة أصبحت مشلولًا".

في زاوية من غرفته بالمستشفى، تتكئ والدته، منال، على الحائط، وتتابع حالته بين نَفَس ونَفَس. نازحة من خان يونس جنوب قطاع غزة وتقيم في منزل مستأجر بعد أن فقدَت بيتها في الحرب الإسرائيلية الحالية، تقول وهي تغالب دموعها: "أنا أمه، لكنني أشعر بعجزٍ تام أمامه. لا أقوى على تحريك يده أو قدمه، وأمضي ساعات النهار إلى جانبه أراقب أنفاسه. زوجته حامل، وله ابنتان صغيرتان، ولا تستطيع الحضور للاعتناء به".

شخّص الأطباء حالته بالشلل الرخو الناتج عن متلازمة غيلان باريه، وهي حالة مناعية تُصيب الأعصاب وتُعد أحد أبرز أسباب الشلل الرخو الحاد، وقد تؤدي إلى توقف التنفس في غضون ساعات. ورجّحوا أنّ تكون مرتبطة بتلوث المياه وسوء التغذية، وربما أيضًا التعرُّض للغازات السامة. وهو تشخيصٌ أصبح شائعًا في قطاع غزة مع تكرار الحالات المماثلة في الأسابيع الأخيرة.

ما هو الشلل الرخو ولماذا يتفشى فجأة في غزة؟

منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، شهدت مستشفيات غزة تزايدًا ملحوظًا في عدد المصابين بأعراض شلل مفاجئ، ما أثار قلق الأطباء من تفشي ما يعرف بالشلل الرخو الحاد، وهو حالة تُهدد حياة المرضى إن لم تُعالج فورًا.

نائل الغفري، 34 عامًا، لم يتخيل أن يتحول يومه الطبيعي إلى محنة جسدية ونفسية. شعر في البداية بضعف في كفتي اليدين، ثم تمدد العجز إلى الساقين، وفي اليوم التالي بات عاجزًا عن تحريك جسده.

قال بصوتٍ مخنوق: "صدمت عندما وجدت نفسي فجأة مشلول ولا أتحرك نهائيًا، نفسيتي تعبت جدًا. لم أفضل رؤية أبنائي أو زوجتي، لا أريد أن يراني أحد ضعيف". قضى نائل 12 يومًا في المستشفى، بينها خمسة في العناية المركزة، وخرج بعدها قادرًا على الوقوف، لكنه لا يزال يتلقى جلسات علاج طبيعي لاستعادة حركته الكاملة.

براء فياض، من بلدة بيت حانون شمال القطاع، نازح في خيمة بحي النصر غرب غزة، لم يكن يتوقع أن يتحوّل حمله لجردل ماء إلى بداية مأساة صحيّة. وبينما كان في المخيم يُعبئ الماء سقط فجأة. يقول: "وقع جردل الماء من يدي، ولم أستطيع تحريك كفة يدي، فعدت إلى الخيمة، وفي نفس اليوم لم أستطع الوقوف على قدميّ، وبعدها توقف جسمي كاملًا عن الحركة".

نُقل براء إلى مستشفى الحلو الدولي غرب غزة، وهناك فقَدَ قدرته على التنفس خلال ساعات، وأُدخل العناية المركزة لستة أيام، تلاها 15 يومًا من العلاج والمتابعة. ورغم خروجه من المستشفى، لا تزال الشكوك قائمة حول إمكانية انتكاسة حالته. أخبره الأطباء أنّ سبب تدهور حالته هو تلوث المياه التي تصلّ إلى المخيم، نتيجة اختلاطها بمياه الصرف الصحي التي تجري بين الخيام، والتي يعتمد عليها النازحون في استخدامهم اليومي.

داخل أقسام مستشفى الحلو، تُتابع الممرضة ريهام أبو ظاهر، التي تعمل في المجال منذ 14 عامًا، الحالات القادمة يوميًا بأعراض متشابهة: ضعف في الأطراف يبدأ من اليدين ويتطور بسرعة.

تقول أبو ظاهر: "أول مرة تمر علينا حالات بهذا الشكل، أغلب المرضى يأتون في البداية وهم يشكون من ضعف في اليدين، فقدان حركة وإحساس، ثم ينتقل إلى الرجلين، البعض يظن أنها جلطة أو أمر بسيط، لكن عندما يتأخر في المجيء، يكون قد وصل إلى شلل رباعي أو شبه رباعي، لا يستطيع حتى شرب الماء".

لا تنسى الممرضة تفاصيل حالة مؤثرة مرّت بها مؤخرًا. فتاة صغيرة لم تكن قادرة على إبعاد ذبابة عن وجهها. مكثت خمسة أيام في العناية المركزة، قبل أن تتلقى علاجًا مناعيًا مترافقًا مع العلاج الطبيعي، لتستعيد حركتها وتغادر المستشفى على قدميها.

وخلال شهر يوليو المنصرم وحده، استقبل مستشفى الحلو الدولي بغزة 15 حالة مماثلة، أغلبها تحسن بعد تلقي علاج مناعي مكثف، وفقًا لأبو ظاهر، التي تؤكد أن الطاقم الطبي لا يزال مصدومًا من هذا التصاعد السريع في أعداد الإصابات.

تُردف أبو ظاهر وهي تراقب مرضى آخرين ينتظرون دورهم في تلقي العلاج الطبيعي: "الأوضاع في غزة كارثية، الناس عايشة في خيام، المياه ملوثة، والنظافة معدومة، كل هذا يجعل الأمراض الفيروسية والبكتيرية تنتشر بسهولة وتؤدي إلى مضاعفات خطيرة على الأعصاب والمفاصل". وهو ما يعكس تأثير تلوث المياه في غزة، لا سيما في مناطق النزوح، حيث يضطر السكان لاستخدام مصادر ملوثة بفعل غياب البنية التحتية.

الشلل الرخو في غزة: ضحية الحرب والبيئة الملوثة

تتقاطع أزمة الشلل الرخو مع تدهور البيئة الصحية في غزة، حيث تُقدّر اليونيسف أن 60% من مرافق المياه لا تعمل، وأن انقطاع الوقود منذ مارس أدى إلى تعطّل محطات الصرف وتراكم النفايات، مما أثّر على انتشار الأمراض الناجمة عن تلوث المياه.

وفي يونيو الماضي، حذرت منظمة الصحة العالمية من نفاد نحو 50% من المستلزمات الطبية الأساسية في قطاع غزة. كما أبلغت المنظمة أن أكثر من نصف الأدوية والمعدات الأساسية غير متوفرة، وأن القيود الإسرائيلية على إدخال الإمدادات منذ مارس جعلت الشلل الرخو أكثر خطورة. 

وتشير تقارير المنظمة إلى أن الضرر لا يقتصر على نقص الخدمات، بل يشمل انهيار البنية الصحية بأكملها؛ فقد تعرّضت مرافق الرعاية الصحية لأكثر من 1,900 هجوم منذ اندلاع الحرب، بينما أُخرج نحو 94% من مستشفيات غزة عن الخدمة، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى وحدات العناية المركزة وأجهزة التنفس ومستلزمات الأعصاب.

الواقع الصحي المتدهور لا يغيب عن أعين الطبيب محمد أبو سلمية مدير مجمع الشفاء الطبي، الذي حذّر من تفشٍ غير مسبوق لمرض الشلل الرخو الحادّ في القطاع. 

الشلل الرخو، كما يوضحه أبو سلمية، ليس مرضًا واحدًا بل عرضًا لأمراض متعددة، منها فيروس شلل الأطفال، وفيروسات معوية، ومتلازمة غيلان باريه، والتهاب النخاع الشوكي، وبعض حالات التسمم واضطرابات المناعة الذاتية.

وتتمثل أبرز أعراض هذا المرض في ضعف مفاجئ في العضلات، ارتخاء جسدي، صعوبة في المشي، وقد يصل في بعض الحالات إلى شلل كامل في عضلات التنفس، دون أن يفقد المريض وعيه.  

أما طرق التشخيص، تشمل الفحص السريري، وتحاليل الدم، واختبار السائل الشوكي، إلى جانب التصوير بالرنين المغناطيسي واختبارات الأعصاب، لكن معظم هذه الفحوصات غير متوفرة في ظل الحرب الراهنة .يقول الطبيب بقلق بالغ: "نحن نواجه كارثة صحية. كنا نسجل سنويًا في أحسن الحالات نحو عشر إصابات، واليوم، خلال أقل من شهر، تجاوزنا 80 إصابة".

يتقاطع ما أشار إليه أبو سلمية مع ما أكد عليه الطبيب أيمن أبو رحمة، مدير دائرة الطب الوقائي في وزارة الصحة بغزة، أن أقصى عدد إصابات الذي كان يُسجَّل قبل الحرب لا يتجاوز أربع أو خمس حالات سنويًا، لكن الوزارة وثّقت خلال الشهرين الماضيين 64 إصابة بالشلل الرخو الحاد ومتلازمة غيلان باريه، توفي منها ثلاث حالات، من بينها سيدة في الستين، وطفل عمره أقل من خمس سنوات، وآخر يبلغ 14 عامًا.

وهو ما يثير القلق بشكل خاص على أطفال غزة، الذين باتوا أكثر عرضة لهذه الأمراض في ظل غياب الرعاية والتطعيمات الأساسية.

يشير أبو سلمية إلى أنّ هذا المرض لا يفرق بين فئات عمرية، ويصيب الأطفال والشباب وكبار السن، ويتسبب في ضعف حاد في المفاصل والعضلات، قد ينتهي بوفاة المصاب إذا لم يتلق العلاج المناسب.

ويؤكد الطبيب أبو سلمية إلى أن السبب المباشر لهذا التفشي يعود إلى انهيار المنظومة الصحية، وتلوث مصادر المياه بعد اختلاطها بالصرف الصحي، نتيجة الحرب التي دمرت البنية التحتية. ويتطلب هذا المرض علاجًا محددًا يتمثل في عقار (IVIG) لمدة خمسة أيام متتالية، وأحيانًا فصل بلازما الدم، لكن كلا العلاجين غير متوفرين في غزة. 

بالإضافة إلى ذلك فإنّ المرض يتطور بشكل سريع خلال ساعات، ويؤثر على الأطراف السفلية أولًا، ثم قد يصل إلى عضلات التنفس، مما يستدعي أجهزة تنفس صناعي في بعض الحالات. بعض المرضى يُحتجزون في مستشفى الحلو لتلقي الرعاية المؤقتة، لكن دون توفر بروتوكول علاجي فعّال. 

يتابع أبو سلمية: "نحن نقف عاجزين أمام هذا المرض؛ فإما أن يتحسن المريض بشكل تلقائي، أو ينتهي به الأمر على أجهزة التنفس الصناعي ثم الوفاة".

يطلق مدير مشفى الشفاء نداءً أخيرًا للمؤسسات الصحية والجهات الدولية لتقديم دعم عاجل، وتوفير الوسائل اللازمة للتشخيص والعلاج، في وقت يُسجَّل فيه انهيار شامل للقطاع الصحي نتيجة الحرب، ونقص حاد في الكوادر والإمدادات الطبية.

في قطاعٍ صحي ينهار تحت وطأة الحصار والحرب، تتحول أمراض يمكن علاجها إلى تهديدات قاتلة. الشلل الرخو في غزة لم يعد حالة نادرة، بل ظاهرة تتفشى بصمت في بيئة غير صالحة للحياة. ففي خيام النازحين المزدحمة، وبين المياه الملوثة وانعدام الرعاية الصحية، تتضاعف فرص العدوى، وتتسارع المضاعفات، بينما يفتقر الأطباء إلى أبسط أدوات التشخيص والعلاج.

أمام هذا الانهيار الصحي في قطاع غزة، إلى متى سيبقى مرضى الشلل الرخو بدون علاج؟ ومتى يتحرك العالم لإنقاذ النظام الصحي المنهار وتوفير الدواء للمرضى؟