كتب: أدهم الريفي
في مدينة لا تعرف النوم، وتُشبه في تعبها رجلاً سهر على كرسي بلا ظهر … تجد شارع الصحابة، لا يزال مستيقظًا.
ليس فقط لأنه شارع مزدحم، بل لأنه يحمل قصة كاملة عن تطور غزة الشعبي، من ترابٍ وصبّر، إلى ضجيجٍ وبسطات وأمل.
حين تخطو أولى خطواتك من جهة "السدرة"، تشعر أنك تدخل شارعًا له ذاكرة.
ليس مجرد شارعٍ مبلّط بالإسفلت، بل مغطى بقصص الناس.
"قبل التسعين، ما كانش فيه شارع… كان تراب، وعلى الجانبين شجر صبر وغيلانة، وكم بيت بعيد عن بعض."
تحوّل الشارع تدريجيًا، بدأت البيوت تتقارب، وتشجّع الناس على البناء والسكن.
وفي وقت لم تكن فيه المولات ولا المحلات الضخمة موجودة، ظهرت أولى ملامح "الروبابيكيا" محلات صغيرة لبيع الأثاث المستعمل، تعكس حال اقتصاد المدينة.
كراسي بثلاثة أرجل، غسالات تصدر صوتًا كأنها تطلب الرحمة، وثلاجات تعيش على الدعاء.
في منتصف الطريق، يقف مسجد الصحابة شامخًا، كأنه يبارك كل تاجر يدخل السوق.
وفي اخر الشارع لاحقًا، ظهر مسجد التابعين، ثم مستشفى الصحابة الصحي، ليرسموا معًا معالم الشارع الذي لم يعُد حيًا عشوائيًا فقط، بل نقطة تمركز خدماتي مهم في المدينة.
مع اشتداد الحصار والحروب، انفجرت الحياة على الإسفلت.
تحوّل الشارع إلى سوق مفتوح بدون سقف ولا قانون. كل شيء يُباع: خضرة، لحمة، ألعاب، أدوات كهربائية… الجديد، والمستعمل، وحتى "الخربان بس شغّال نص نص".
"ما فيش شغلة بتعيش إلا هنا، الناس بدها تاكل، وإحنا بنحاول نبيع باللي بنقدر عليه."
— تاجر بسطات في السوق.
لكن خلف الضجيج، يشعر المواطنون أن الأسعار ترتفع بلا منطق، وكأن البائع يبيع "أملًا في كيس".
كيلو البندورة يساوي حديثًا سياسيًا، وصفيحة الزيت تحتاج تمويلاً خارجيًا!
ارتفعت الأصوات تتهم التجار بالجشع.
لكن الحقيقة ليست أبيض أو أسود.
فبين تاجرٍ محترم يكدّ ليكسب قوت يومه، وآخر يراكم الربح بلا خجل، يقع المواطن ضحية اقتصاد لا يرحم، وسلطة لا تُراقب.
"بطلنا نعرف الغالي من الرخيص… بس بنشتري، لأنه ما في خيار."
— سيدة تحمل كيس خضار فيه أكثر هواء من طعام.
اليوم، شارع الصحابة ليس فقط مكانًا للتسوّق…
هو مسرح يومي للحياة في غزة:
الناس تتزاحم، البائع يصرخ، المشتري يساوم، والدنيا تمشي رغم كل شيء.
إنه شارع يعرف كل شيء: الفقر، الغضب، الصمود، والدعاء.
وعندما تمشي فيه… لا ترى فقط وجوه الناس، بل تسمع في كل زاوية سؤالًا بسيطًا:
"كم ثمن البقاء؟"
سوق الصحابة وسط مدينة غزة