أمهات معيلات يواجهن الجوع والموت

في الطريق إلى "زيكييم"

أمهات معيلات يواجهن الجوع والموت

كانت عيون السيدة الفلسطينية عبير صافي تتفحص الأفق بقلق، بينما كانت يداها ترتجفان حول كيس بلاستيكي ممزق. انتعلت حذاءها المتهالك فوق الرمال المحترقة، تاركةً خلفها أطفالها الأربعة في خيمة من القماش المشمع، حيث لا شيء يحميهم سوى صلواتها.

قبل عام، فقدت صافي زوجها تحت أنقاض منزلهم في حي الزيتون. والآن، ها هي تواجه وحيدةً سباقاً آخر: سباقاً للحصول على كيس دقيق قد ينقذ حياة من تبقى من أسرتها.

"لو عاد الزمن.. لاخترت الموت معه بدلاً من هذا العذاب"، همست عبير بينما كانت تندفع بين الحشود المكتظة على شارع الرشيد غرب مدينة غزة. الآلاف تجمعوا هنا، رجالاً بوجوه غائرة، نساءً بأقدام دامية من السير لساعات، أطفالاً يحملون عيوناً أكبر من أعمارهم.

الجميع هنا على طول الطريق الممتد بنحو 12 كيلو متراً، ينتظر دخول شاحنات الإغاثة القليلة التي تصل عبر معبر زيكيم أقصى شمال قطاع غزة، حيث تتحول كل رحلة للحصول على الطعام إلى رهان مع الموت.

الجوع في الأحشاء والرصاص فوق الرؤوس

السيدة فايزة الترمسي، البالغة من العمر 35 عاماً، كانت تجثو على الأرض بينما أصوات الرصاص تدوّي فوقها. تُسكن أطرافها وتكتم أنفاسها في انتظار توقف إطلاق النار المتواصل.

تضع الترامسي يدها على صدرها كي لا ينفجر قلبها خوفاً. حولها، أكثر من مئتي شخص يستلقون أرضاً، وجوههم ملتصقة بالتراب، بينما الرصاص يخترق الهواء فوقهم من كل اتجاه.

بين لحظة وأخرى يلقى جائع هنا حتفه، القليل منهم يحظون بفرصة الانتشال، العيون تظل شاخصة على دخول الشاحنات، فيما المصابين أيضا يتألمون ويصرخون دون جدوى. أما الترامسي فتقول بصوت مبحوح: "إنهم يطلقون النار باتجاهنا وكأننا حيوانات".

لم تكن فايزة تعرف أن هذا المشهد سيتكرر كل يوم. فقبل شهرين، نزحت من حي الشجاعية بعد أن دفنت ثلاثة من أقاربها تحت أنقاض منزلهم. والآن، أصبحت حياتها عبارة عن انتظار: انتظار شاحنة، انتظار رغيف خبز، انتظار رصاصة قد تنهي رحلة عذابها.

الأطفال الذين صاروا رجالاً

في زاوية أخرى من الشارع، كان محمد مديرس، ذو السبع سنوات، يحاول أن يبدو كبيراً. قُتل والده في غارة جوية قبل 48 ساعة فقط، لكنه لم يجد وقتاً للحزن. "أخوتي جائعون"، قال وهو يمد يده الصغيرة نحو أحد المتطوعين. عيناه كانتا تشبهان عيون الجداء، واسعتان وفارغتان. "أبي مات.. أنا المسؤول الآن"، كررها كما لو كان يحاول إقناع نفسه.

حمل محمد نصف كيس دقيق بعد ساعات من الانتظار، لكنه لم يعرف كيف سيخبزه. لم يعد هناك غاز، ولا ماء نظيف، ولا كهرباء. فقط رائحة الموت والغبار.

أسماء مسعود، الأم لخمسة أطفال، كانت تهرول بين الحشود بقدمين متورمتين. زوجها، الذي يعاني الشلل منذ الحرب الأخيرة، كان ينتظرها في الخيمة. "إذا لم آتِ بالطعام اليوم.. سيموت"، قالت. لكن الحصول على المساعدة لم يعد ممكناً إلا عبر الشباب الذين يسرقونها ويبيعونها بأسعار خيالية.

تقول مسعود: "كيس الدقيق الذي كان مجاناً أصبح ثمنه يفوق 400 دولاراً".

عبير صافي، التي خسرت 15 كيلوغراماً من وزنها في شهرين، وقفت بين جموع المحتشدين في طريق يبدو لا نهاية له، وقالت: "المساعدات تصل.. لكنها لا تصل إلينا"، قالت وهي تشير إلى شاحنات محاصرة من قبل شبان يحملون أسلحة رشاشة وأخرين يرفعون الأسلحة البيضاء. "نحن نتنافس مع الجوع والرصاص واللصوص.. من سيفوز؟".

قرب نهاية اليوم، ظهرت عربة يجرها حصان هزيل. لكنها لم تكن تحمل الدقيق، بل سبع جثث ملفوفة بملاءات متسخة. أحد الشباب، الذي أصيب برصاصة في رأسه وهو يحاول الوصول إلى شاحنة إغاثة، كان يحمل كيساً ملطخاً بدمائه. "سأعود غداً.. ربما يكون حظي أفضل"، قال بابتسامة مريرة.

أما إنعام صيام، الأرملة وأم الستة أطفال، فقد وقفت عند حافة الهاوية. "إذا مت.. من سيطعم أطفالي؟" سؤال ظل يلاحقها بين الجثث والجرحى.

مع حلول الظلام، عادت عبير إلى خيمتها فارغة اليدين. أطفالها ناموا من شدة الجوع، وأصوات القصف تدوي في الخلفية.