وقفت "أم محمد" ترتجف تحت وهج الشمس الحارقة، يداها المتشنجتان تمسكان بوعاء بلاستيكياً مُشوهاً. عيناها الغائرتان تبحثان بين الحشود اليائسة عن بصيص أمل.
"هل هذا صالح للأكل؟" همست بصوت مكسور، بينما كانت رفيقتها تنحني لتلتقط بقايا حبوب الأرز التي سقطت على الأرض الترابية. قبضت على صدرها كما لو أنها تحاول سحق ألمٍ لا يُحتمل، ثم انفجرت بصرخة اخترقت ضجيج الزحام: "ارحموا أطفالنا! انظروا إلينا!". لكن أحداً لم يلتفت إليها.
في خيام النازحين بقطاع غزة، تتعاظم المعارك اليومية مع الجوع. تحت الشمس اللاهبة، تتكدس عشرات العائلات في طوابير متعرجة أمام "تكية" تعد حساء العدس وفي الغالب لا يحصل معظم المصطفين على وجبة لأن الكمية محدودة.
أطفالٌ نحيلون يتسللون بين الأرجل، نساءٌ يصرخن بينما يتدافع الرجال لملء أطباقهم قبل نفاد الطعام. أحد الشباب، الذي بدا وكأنه على وشك الإغماء، أمسك بجدار متهالك واستفرغ عصارة معدته الفارغة.
"نحن نأكل لنعيش يوماً واحداً فقط لا أكثر"، يقول أبو يوسف، الذي خرج من الزحام يحمل طبقاً متسخاً. عيناه تدمعان من الدخان المتصاعد من موقد بدائي، حيث يحاول بعض الرجال طبخ أي شيء يُسكت جوع السكان.
في الأثناء، وبينما تتعالى الأصوات وتتعارك الأيدي، راجت أنباء عن وصول شاحنات تنقل الطحين عبر شارع الرشيد شمال غرب قطاع غزة، فانفض الكثير من الجوعى وتحول المشهد إلى فوضى دامية في الشارع، حيث هرع عدد كبير منهم أطفال ونساء واتجهوا غربا بحثا على حصتهم من الطحين.
في الحقيقة هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر، فربما يعود السكان محملين بالطحين، أو جثث على الأكتاف. ومع كل ذلك تقول حنين وهي شابة في السابعة والعشرين من العمر، إنها مغامرة تستحق العناء.
تنتعل حنين ذات البشرة الداكنة، حذاء مطاطيا ليعينها على الركض خلف شاحنات المساعدات، وتتدافع بين الآلاف من الناس طمعا في جلب الدقيق لأشقائها وشقيقاتها. وحول المخاطر المحدقة بها قالت: "في نهاية المطاف نحن إن لم نمت ونحن نركض خلف شاحنات الطحين، سنموت جوعاً".
المستشفيات.. حيث يموت الأطفال بصمت
وتتقاسم النساء في قطاع غزة مسؤولية ثقيلة مع الرجال وربما تكون أكثر تعقيدا، لاسيما أولئك اللواتي يعلن أسراً، ويتطلب منهن ذلك، توفير الطعام وتدبير مؤنة البيت، في ظل المجاعة القائمة وانعدام مصادر الدخل.
ومن الطعام إلى الدواء، تواجه الأمهات تحدي من نوع أخر. داخل مستشفى "الرنتيسي" للأطفال، تختلط روائح المطهرات بأنين الأمهات. الطبيب راغب ورش آغا، يحك جبينه المتعرق قبل أن يهمس: "كل يوم نستقبل أطفالاً جُلبوا إلينا بعد فوات الأوان، يموتون بسبب الجوع وانعدام التغذية".
في جناح سوء التغذية، جلست "أم شام" بجانب سرير رضيعتها التي تشبه هيكلاً عظمياً مغطى بجلد شفاف. يدها المهزوزة تمسك بزجاجة حليب فارغة. "لا أستطيع إرضاعها.. جسدي لم يعد يفرز الحليب"، تقول بينما تنظر إلى ابنتها التي تكافح للتنفس.
في السرير المجاور، يرقد الطفل يدعى حسام (4 أعوام)، عيناه زائغتان بينما يتلقى المحاليل. "إنه لا يستطيع المشي.. كل عظامه بارزة"، تقول أمه وهي تفرك ظهره بيد مرتعشة.
أحد الآباء، الذي بدا وكأنه في العقد السادس من عمره (رغم أنه لم يتجاوز الـ35)، يضع يده على خده ويحدق في التوأمين اللذين أنجبهما بعد سنوات من الانتظار. "لم أعد أعرف كيف أطعمهم.. الحليب اختفى من القطاع"، يقول وهو يبتلع دموعه.
وسجلت مستشفيات قطاع غزة خلال 24 ساعة (يوم الثلاثاء 22 يوليو الحالي فقط)، 15 حالة وفاة، بينهم 4 أطفال، بسبب المجاعة وسوء التغذية. ليصبح العدد الإجمالي لوفيات المجاعة وسوء التغذية 101حالة وفاة بينهم 80 طفل.
أسواقٌ بلا طعام.. وأسعارٌ بلا رحمة
في أحد الأسواق الشعبية شمال مدينة غزة، تمتد الأكفّ الخاوية فوق أرفف خاوية. المواطن نور صبح، نازح من بيت لاهيا، يتجول بين الدكاكين المقفرة، ثم يضرب جداراً بيده اليائسة: "خرجت منذ الفجر ولم أجد حتى رغيف خبز!".
سعر كيلو الدقيق يقفز إلى 120 شيكل (حوالي 40 دولاراً)، بينما لا يتجاوز دخل معظم العائلات بضعة دولارات في الشهر. أما المواطن إبراهيم أبو نعمة، والذي كان يقف أمام بسطة خضار، فتح محفظته المهترئة بيد راجفة، ثم ضحك ضحكةً مريرة: "هذا كل ما أملكه.. لا يكفي حتى لشراء حبة باذنجان!".
بينما يحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من أن غزة دخلت مرحلة "المجاعة القصوى"، يصرخ "بسام داود" في كاميرا مراسلنا، عيناه تحترقان غضباً: "أطفالنا يموتون جوعاً! أين الضمير العالمي؟!" لكن هنا، في هذا الركن المُنسي من العالم، تبدو الصرخات وكأنها تضيع في الفراغ.
الأطفتال يموتون جوعا في غزة