كيف يتم إدارة ملف التحويلات الطبيّة؟

كيف يتم إدارة ملف التحويلات الطبيّة؟

كان الرضيع يوسف بكرون يبلغ من العمر خمسة وعشرين يوماً فقط عندما بدأت الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة. اليوم، بعد عامين، لم يعد ذلك الرضيع الذي نجا من الغارة التي أودت بحياة شقيقيه وأصابت والدته بجروح بليغة.

بل أصبح طفلًا بلا ساق، يُقاوم الموت ببطء داخل مستشفى ميداني في الزوايدة وسط قطاع غزة، بعد أن خضع لأكثر من 35 عملية جراحية، آخرها أُجريت في العاشر من يوليو الحالي خلف أبواب مغلقة خشية حدوث نزيف.

في ذروة حالته الحرجة، منحه الأطباء "تحويلة عاجلة" للعلاج خارج القطاع. "قالوا لنا إن حالته لا تحتمل الانتظار"، يتذكر والده، نزار، "لكن لم يتصل أحد، ولم يصلنا أي رد من أي جهة". وبينما توالت العمليات الجراحية، بقيت التحويلة حبرًا على ورق، مثل إبرة تخدير.

"أشعر أن ابني ضحية إهمال مزدوج، من الاحتلال ومن الجهات المسؤولة عن التحويلات"، يقول الأب "نزار" الذي طرق أبواب منظمة الصحة العالمية وأرسل المستندات التي تفي بإفادة حاجة طفله الماسة للمغادرة بعد استنفاذ سبل العلاج داخل غزة، دون أن يتلقى أي رد.

في خيمتهم، تحوّلت تفاصيل الحياة إلى معارك صغيرة: الحليب الذي اشتراه الأب كان مالحًا، فرفضه يوسف، وطلب جبنة أو بسكويت بدلًا منه. أما والدته، التي فقدت ذاكرتها بفعل الشظايا التي استقرت في دماغها، فلم تعد تتعرف عليه. "كانت تسأل: من هذا؟ يوسف؟ لا أعرفه"، حسبما قال الأب وهو يحاول بكل ما يستطيع أن يُبقي طفله واقفًا بساق واحدة… أو بأملٍ واحد فقط.

هذه ليست قصة يوسف وحده. ففي خيمةٍ بمواصى خانيونس جنوب قطاع غزة، يُمسك عماد الضبة (37 عاماً) بتحويْلته الطبية الموقّعة في الخامس من يونيو 2024، بعد انتظارٍ دام شهراً كاملاً من المراجعات والتنقلات بين المستشفيات.

يعرف الضبة جيداً أن هذه الأوراق قد تكون تذكرته الوحيدة للنجاة من الفشل الكلوي الذي ينهشه منذ عام 2018، والذي عاش معه سنوات طويلة من التوازن الهشّ بين جلسات الغسيل ومحاولات البقاء قويًا من أجل أسرته. لكن الحرب لا تعترف بالمرضى، ولا بالتحويلات التي تحمل ختم "طارئ".

مع بدء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، اضطر عماد إلى النزوح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، حاملاً جسده المرهق إلى منطقة المواصي جنوب القطاع، وهناك لم يجد سوى خيمة صغيرة تأويه. خيمة لا ترد عنه برد الليل ولا حرارة القهر، أصبحت مع الوقت أشبه بقبر مفتوح يعيش فيه بصمت وهو يرى الحياة تتسرب منه قطرةً قطرة.

في أبريل، وبعد أن تدهورت حالته أكثر، تقدّم بطلب تحويلة طبية لإجراء عملية زراعة كلى، بعد أن تطوّعت شقيقتاه للتبرع له. خضعتا للفحوصات، وجُمعت الوثائق، وانتظر أسبوعين حتى دخل ملفه لجنة الفحص في مجمع ناصر، ثم خمسة عشر يومًا إضافية مرت ببطء قاتل قبل أن يحصل على تحويلة رسمية بتاريخ الخامس من يونيو.

تواصل شقيقه مع منظمة الصحة العالمية، وأرسل الأوراق عبر تطبيق "واتساب"، لتأتي الصدمة بعد ثلاثة أيام بردٍ مقتضب: "التحويلات والإجلاء الطبي مسموح به فقط للأطفال، وفقًا لما يسمح به الجانب الإسرائيلي". جملة واحدة كانت كفيلة بإسقاط كل ما بنته العائلة من أمل هشّ، وتفجير حالة من الانهيار لدى عماد الذي يعلم أن الوقت لا ينتظر أحدًا.

وبينما كانت شقيقته "عنايات" التي تعاني أيضًا من قصور كلوي حاد منذ مطلع 2024، تتلوى من الألم، أصابتها شظية خلال قصف في خانيونس واستقرت بجانب كليتها المتعبة. أما أخوهما "عليان"، فكان قد استسلم للمرض قبلهما ورحل بصمت، تاركًا وجعًا لا يشفى وصوتًا غائبًا كانوا يستمدون منه بعض القوة.

"الماء ملوث، الطعام نادر، والمسكنات صارت حلمًا"، يقول عماد، مضيفًا أن الوصول إلى مستشفى ناصر مرتين أسبوعياً بات يشبه عبور ممرٍ إلى الموت، لكنه لا يملك ترف التوقف. "أحاول فقط أن أبدو حيًّا"، يختم، بينما يحمل بين يديه نسخة من تحويلته الموثقة بتواقيع رسمية، لكنها بلا جدوى.

 

خلف هذه الحكايات، يكمن نظام تحويلات طبية تحوّل إلى متاهةٍ بيروقراطية تائهاً بين أطراف متعددة: وزارة الصحة في غزة التي "فقدت السيطرة على الملف"، ومنظمة الصحة العالمية التي تتولى التنسيق مع الجانب الإسرائيلي، ولجان طبية محلية تحاول فرز الحالات بينما المستشفيات تتخرج عن الخدمة واحدةً تلو الأخرى.

ومع إغلاق وحدة التحويلات الرسمية منذ بداية الحرب مع مغادرة مدير وحدة العلاج بالخارج، للقطاع، أُنيطت مهمة الملف كاملاً بمنظمة الصحة العالمية، التي طُلب منها استلام الكشوفات والتصرف فيها.

زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة، قال إن عدد المرضى الذين أنهوا كامل إجراءات التحويل وينتظرون السفر بلغ نحو 15 ألفًا، من بينهم 5100 جريح أصيبوا خلال العدوان. 

ويشير الوحيدي إلى أن العدد يرتفع إلى 20 ألفًا إذا ما أُضيفت الحالات التي لا تزال قيد استكمال الأوراق. هذا الواقع العددي، من وجهة نظره، يكشف اتساع الفجوة بين الحاجة الطبية العاجلة والقدرة على تنفيذ التحويلات فعليًا، في ظل غياب التنسيق الكامل وتضارب الصلاحيات بين وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية.

لكن آلية العمل أشبه بصندوق أسود. مصدر في وزارة الصحة، رفض الكشف عن اسمه، يشرح أن اللجان الطبية في شمال وجنوب غزة ترفع التحويلات عبر نظام محوسب إلى منظمة الصحة العالمية، التي تتحكم وحدها في "من يسافر ومتى". 

منذ بداية الحرب، أُغلقت وحدة العلاج بالخارج، والمدير المسؤول عنها موجود خارج القطاع، ما جعل الوزارة تسلّم ملف التحويلات بالكامل للمنظمة دون أي سلطة تنفيذية.

يوضح المصدر أن دور الوزارة الآن يقتصر على المتابعة داخل المستشفيات، بينما تتم التوصية بالتحويلات من الطبيب المختص ورئيس القسم وإدارة المشفى، ثم تُراجع أسبوعيًا في لجنتين طبيتين تضم استشاريين من مختلف التخصصات، واحدة في شمال قطاع غزة والأخرى في جنوبه، وتعقدان اجتماعهما كل اثنين. 

لكن المشكلة تكمن حسبما أوضح قائلا: "بعد رفع الطلبات، لا تتلقى الوزارة في كثير من الأحيان أي تغذية راجعة، بل يصلها أحيانًا خبر سفر المرضى من الإعلام."

ويشير إلى أن بعض التحويلات تُمنح بناءً على توجيهات خارج إطار الوزارة، ما تسبب بخلل واضح في الأولويات، وسفر حالات لم تُقيَّم، أو لا تندرج ضمن الفئات الأشد خطورة.

وائل بعلوشة، المدير الإقليمي للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، طرح سؤالاً أكثر إيلاماً: "ما المعايير التي تتبعها منظمة الصحة العالمية لاختيار الحالات؟".

يشير بعلوشة إلى أن حجم الكارثة الصحية في القطاع غير مسبوق، فالمواطنين إما يُقتلون مباشرة أو يُتركون فريسة لأمراض مزمنة وخطيرة دون رعاية، في ظل الانهيار الكامل للبنية التحتية الصحية. 

يقول بعلوشة: "لدينا آلاف المرضى المصابين بأمراض خطيرة كالفشل الكلوي والسرطان والقلب، إضافة إلى جرحى العدوان الذين يعانون من إصابات بليغة تتطلب تدخلات جراحية معقدة غير متوفرة داخل غزة".

تكادّ بعض الخدمات الحيوية مثل غسيل الكلى أن تكون معدومة، ما أدّى إلى وفاة بعض المرضى نتيجة عدم تمكنهم من تلقي الجلسات في الوقت المناسب. وفقُا لبعلوشة، كما يشير إلى أن استهداف الاحتلال للمستشفيات كان ممنهجًا، وقد أدى إلى خروج مؤسسات رئيسية عن الخدمة، بما فيها المستشفى التركي لعلاج السرطان في منطقة خاضعة عسكريًا للاحتلال.

وعلى الرغم من أنّ منظمة الصحة العالمية تتولى حاليًا تنسيق عمليات الإجلاء الطبي بالتعاون مع وزارة الصحة الفلسطينية، فإن بعلوشة يؤكد أن الاحتلال يتحكم حتى في التفاصيل الدقيقة كاختيار المرضى والمرافقين، ما يحوّل العلاج إلى "امتياز استثنائي" لا حق مكفول.

ويتابع بعلوشة: "سمعنا عن حالات تم استثناؤها من القوائم رغم حالتها الحرجة، مقابل إدراج أسماء لا تنتمي لقوائم المرضى أصلاً"، مطالبًا بنشر معايير الاختيار وتوضيح من الجهة التي تتخذ القرار: "هل هي منظمة الصحة العالمية؟ أم وزارة الصحة؟ أم الاحتلال؟".

كما دعا إلى فتح تحقيق داخلي في أي شبهات حول استغلال التحويلات لأغراض غير إنسانية، سواء بدوافع الإقامة أو الجنسية.

وفي ختام حديثه، قال بعلوشة: "نأمل أن نحصل على ردود واضحة من المنظمة تعكس الواقع وتُفسّر حجم المعاناة، حتى نفهم نحن كفلسطينيين ما الذي يحدث، ولماذا يُحرم آلاف المرضى من أبسط حقوقهم في العلاج".

محاولات "آخر قصة" للتواصل مع منظمة الصحة العالمية في غزة باءت بالفشل. حتى البريد الإلكتروني المُرسل إلى مديرها، الدكتور أحمد ضاهر، لم يُجب عليه.

ووفق المصدر الذي تحدّث لـ "آخر قصة" من وزارة الصحة، فإنّ المنظمة تسلّمت كشوفات المرضى كاملة، لكن دون أن توضح معاييرها في الاختيار، ما فتح الباب أمام تساؤلات وشبهات حول آلية اتخاذ القرار.

الناشط الحقوقي سعيد عبد الله أشار بأصابع الاتهام إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، متهمًا إياها باستخدام "التلاعب بالتحويلات كأداة عقاب جماعي"، ويرى أن إدارة منظمة الصحة العالمية لملف التحويلات لا تُعفي الاحتلال من المسؤولية القانونية، باعتباره الجهة التي تتحكم فعليًا في السماح بخروج المرضى، لامتلاكه القرار النهائي.

ويُحذر عبد الله، من أن تقييد السفر لأسباب غير طبية قد يُصنّف كعقاب جماعي، وينتهك المادة 56 من اتفاقية جنيف الرابعة. ويؤكد أن منع العلاج عن مرضى يمتلكون تحويلات رسمية، في مقابل السماح لحالات غير مُقيّمة طبيًا، يُخرج الملف من نطاق الإجراء الصحي إلى مستوى الانتهاك الممنهج، الذي قد يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي.

لكن القوانين تتهاوى أمام واقعٍ تُرفض فيه تحويلات مرضى مثل عماد ويوسف، بينما تُمنح لأطفالٍ دون غيرهم، وأحيانًا بناءً على اعتبارات لا علاقة لها بالحاجة الطبية.

وفي الوقت الذي يُختزل فيه العلاج بقرار إداري، يبقى آلاف المرضى عالقين في الخيام، يتناوبون على الألم في انتظار اتصال مفاجئ يحمل معه الأمل، أو نبأ صادق بفتح المعبر أمام الحالات المرضية.

 

موضوعات ذات صلّة:

مصابو الحرب: حياة مُعلّقة على حبال الألم

بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون   

أربعون في المئة فارقوا الحياة: مأساة مرضى الكلى

عن "الجلوكوما" التي سرقت نظر الغزيين

مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر

الأطفال المرضى: بين أنفاس الحياة وحدود الموت